بحـث
مواضيع مماثلة
المواضيع الأخيرة
من فقه الإئتلاف / سليمان العودة
2 مشترك
:: القسم الديني
صفحة 1 من اصل 1
من فقه الإئتلاف / سليمان العودة
مـــــن فقـــــه الائتلاف
كتبه : د. سليمان بن حمد العودة
[/center]كتبه : د. سليمان بن حمد العودة
يعيش العالم الإسلامي اليوم على قمم الحضارة والمدنية، ولكنه يعيش أيضاً في ظل أعتى الحروب القِيمية الطاحنة.
كان الإسلام بقوته والمسلمون بضعفهم أول مستهدف في هذه الحرب، إلاّ أن الناظر يعجب كيف يكون هذا بين تلك القوى الضخمة وما يُواجههم من إمكانات ضئيلة بالمقياس البشري، ولكن ما أن ينظر إلى الكفة الأخرى فيدرك جانب القوة عند المسلمين..
إن المسلمين وإن لم يملكوا العتاد والقوة فإنهم يملكون رصيداً هائلاً من القيم التي عادة ما تَرْجحُ بكفة الميزان. من هنا كان العمل الإسلامي يتربع على كرسي القيادة في الصف الإسلامي، فلا عجب أن تعقد اللقاءات والمؤتمرات للتباحث في هذا الشأن، ومن الوعي والسبق أن يكون محور التباحث حول سبل الاتفاق وعوامل الافتراق في العمل الإسلامي. العمل الإسلامي ــ كغيره من الأعمال ــ قائم على أساس بشري يعتريه ما يعتري أعمال البشر من القصور والتقصير. ولإن كان العمل الإسلامي قد خطى خطوات فاعلة فيما مضى إلا أن التحديات المعاصرة تفرض مزيداً من التأمل وإعادة النظر مرة بعد مرة.
العالم اليوم بمؤسساته السياسية والاقتصادية يسعى حثيثاً نحو التكتل والتجمع ولو على أدنى مستوى من دواعي الشراكة، والعولمة أبرز مظاهر هذا التكتل، وسنة الله الكونية أن الاجتماع قوة والفرقة ضعف وخور، وقد كان يقال الكثرة تغلب الشجاعة، وأولى الناس بالاجتماع أهل الحق ليبلغوا ما أُمروا به من البلاغ وليقوموا بواجب الرسل الذين اتحدت كلمتهم (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) وهم أبناء علات أبوهم واحد وأمهاتهم شتى. وهذا الإجماع والاجتماع العالمي على الإسلام، وهذه الفريات المتوالية على المسلمين وقيمهم، فرصة لجمع الشتات ووحدة الصف إذ أن الفرية التي لا تقتلك تقويك.
وقد كانت الآمال تولد من أرحام الآمال وقد قال الله فيما أنزل على عبده: (فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسرا)، فجعل اليسر قرين العسر ولن يغلب عسر يسرين.
إن الدارس لتاريخ الأمم والشعوب يرى أنها مرت بنوبات فتور وركود، لكنها ما أن تتحد على كلمةٍ سواء حتى تستعيد عافيتها وعزها.
تأبي الرماح إذا اجتمعن تكسراً ** وإذا افترقن تكسرت آحــــــــادا
والمشروعات النهضوية هي أبنية ضخمة لا تتقيد بمحدودية عمر إنسان واحد، بل ولا حتى بلد واحد، فما لم تُعتمَد استراتيجية إكمالِ ما بُدِء وتحسين ما أُنشئ فستظل محاولات مبعثرة آيلة للسقوط في أي ظرف.
وحينما تتقاطع المشروعات الإسلامية تتحول مع الزمن من مهام البناء إلى مهام انتهاز الفرص للإجهاز على الخصم والإطاحة به، وأول خاسر في هذه المعركة القيم التي بنيت عليها تلك المشروعات، أما إذا تآلفت وتصالحت قام البنيان الشامخ وصارت أمة البنيان المرصوص..
ولقد حث الشارع على الاجتماع ونبذ الفرقة والخصام، ففي شعائر الدين الظاهرة تلحظ هذا المعنى بجلاء؛ فالصلاة والحج والصوم والجمعة والعيدين وغيرها قامت على الاجتماع والتوحد. وحث الشارع على لزوم طاعة من ولاه الله الأمر، ورتب على الطاعة أجراً، وحذر أشد التحذير من شق هذه العصا، بل من مات مفارقاً للجماعة مات ميتةً جاهلية، أما إذا اشتدت الكروب وضاقت السبل فتأكد هذه الدعوة..
ألا ترى أن الله أكد في سورة الأنفال التي كان ابن عباس رضي الله عنه يقول: تلك سورة بدر أكد فيها على الاجتماع (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم)، (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).
وكان من أول المشروعات المحمدية في المدينة المؤآخاة التي تجاوزت حدود الحياة إلى الموت فكان التوارث بين الإخوة في الله مشروعاً ثم نسخ.
وكان أول عمل قام به محمد صلى الله عليه وسلم في المدينة بناء المسجد؛ ليكون المركز الإسلامي الذي ينطلق منه إشعاع النور والهدى. إن التكتلات البشرية ــ أياً ما كانت ــ فهي تتمحور حول قاعدة من المسلمات التي لا تقبل الجدل، والله تعالى لما أمر بالاعتصام أمر بأن يكون ذلك بحبله (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا). وأشد من تُلهبه نار الفرقة والافتراق هم الأتباع وهؤلاء هم السواد الأعظم وهم القيمة الفاعلة في أممهم. وفي سبيل تحقيق هذا التوافق وتنميته لا بد من معرفة دواعي الافتراق ووضع اليد عليها، فصرف الدواء إنما يكون بعد تشخيص الداء. ومعرفتنا للأسباب هي في ذات الوقت علاج؛ لأننا متى ما شئنا أن نخلي الساقية من الماء فلنبادر إلى ما يمدّها فنوقفه. والتجرد لله من الحظوظ والشهوات، خاصة ما خفي منها كحب الترأس والظهور، من أعمق الأسس في هذا الشأن، فلم يمنع عمر وكبار الصحابة رضوان الله عليهم أن يراجعوا الحق لما استبان لهم على لسان أبي بكر رضي الله عنه، ولما اختلف الصحابة في بدر وأمر الله بالإصلاح ثنَّى ذلك بصفات المؤمنين (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقاً). [size=21]
والولاء والبراء عقد شرعي لا يشترط فيه مطلق التوافق فالله سمى الطائفتين المقتتلتين باسم الإيمان، ثم أعقب تلك الآية بالأمر بالإصلاح بين الإخوة المؤمنين، وأمر هنا أيضاً بالتقوى.
والمشروعات النهضوية هي أبنية ضخمة لا تتقيد بمحدودية عمر إنسان واحد، بل ولا حتى بلد واحد، فما لم تُعتمَد استراتيجية إكمالِ ما بُدِء وتحسين ما أُنشئ فستظل محاولات مبعثرة آيلة للسقوط في أي ظرف.
وحينما تتقاطع المشروعات الإسلامية تتحول مع الزمن من مهام البناء إلى مهام انتهاز الفرص للإجهاز على الخصم والإطاحة به، وأول خاسر في هذه المعركة القيم التي بنيت عليها تلك المشروعات، أما إذا تآلفت وتصالحت قام البنيان الشامخ وصارت أمة البنيان المرصوص..
ولقد حث الشارع على الاجتماع ونبذ الفرقة والخصام، ففي شعائر الدين الظاهرة تلحظ هذا المعنى بجلاء؛ فالصلاة والحج والصوم والجمعة والعيدين وغيرها قامت على الاجتماع والتوحد. وحث الشارع على لزوم طاعة من ولاه الله الأمر، ورتب على الطاعة أجراً، وحذر أشد التحذير من شق هذه العصا، بل من مات مفارقاً للجماعة مات ميتةً جاهلية، أما إذا اشتدت الكروب وضاقت السبل فتأكد هذه الدعوة..
ألا ترى أن الله أكد في سورة الأنفال التي كان ابن عباس رضي الله عنه يقول: تلك سورة بدر أكد فيها على الاجتماع (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم)، (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).
وكان من أول المشروعات المحمدية في المدينة المؤآخاة التي تجاوزت حدود الحياة إلى الموت فكان التوارث بين الإخوة في الله مشروعاً ثم نسخ.
وكان أول عمل قام به محمد صلى الله عليه وسلم في المدينة بناء المسجد؛ ليكون المركز الإسلامي الذي ينطلق منه إشعاع النور والهدى. إن التكتلات البشرية ــ أياً ما كانت ــ فهي تتمحور حول قاعدة من المسلمات التي لا تقبل الجدل، والله تعالى لما أمر بالاعتصام أمر بأن يكون ذلك بحبله (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا). وأشد من تُلهبه نار الفرقة والافتراق هم الأتباع وهؤلاء هم السواد الأعظم وهم القيمة الفاعلة في أممهم. وفي سبيل تحقيق هذا التوافق وتنميته لا بد من معرفة دواعي الافتراق ووضع اليد عليها، فصرف الدواء إنما يكون بعد تشخيص الداء. ومعرفتنا للأسباب هي في ذات الوقت علاج؛ لأننا متى ما شئنا أن نخلي الساقية من الماء فلنبادر إلى ما يمدّها فنوقفه. والتجرد لله من الحظوظ والشهوات، خاصة ما خفي منها كحب الترأس والظهور، من أعمق الأسس في هذا الشأن، فلم يمنع عمر وكبار الصحابة رضوان الله عليهم أن يراجعوا الحق لما استبان لهم على لسان أبي بكر رضي الله عنه، ولما اختلف الصحابة في بدر وأمر الله بالإصلاح ثنَّى ذلك بصفات المؤمنين (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقاً). [size=21]
والولاء والبراء عقد شرعي لا يشترط فيه مطلق التوافق فالله سمى الطائفتين المقتتلتين باسم الإيمان، ثم أعقب تلك الآية بالأمر بالإصلاح بين الإخوة المؤمنين، وأمر هنا أيضاً بالتقوى.
عدل سابقا من قبل ناصر محمود العلي في الأربعاء سبتمبر 02, 2009 1:22 am عدل 1 مرات
ناصر Ù…Øمود الØ- نائب المدير
- عدد المساهمات : 246
نقاط : 532
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 11/03/2009
العمر : 115
الموقع : https://boser.ahlamontada.com/profile.forum?mode=viewprofile&u=3
رد: من فقه الإئتلاف / سليمان العودة
إن كثيراً من الخلاف المسبب للافتراق خلافٌ حول مسائل يسع الخلاف فيها، ولا تعدُ أن تكون وجهات نظر قابلة للأخذ والرد، وهذا الحماس المفرط للاجتهادات يؤدي في أحيان كثيرة إلى شقاق وفرقة. ولا بد في سبيل توحيد الصف من وجود قيادات علمية راشدة تكون محط ثقة فينفتل منها المختلفون بنفوس مرضية. أيها الأخوة..
إنه إذا لم يمكن التوافق فلا أقل من السير في خطوط متوازية، إن لم تتفق فلا أقل من أن لا تتقاطع، وقاعدة الشريعة العامة أنه لا واجب مع العجز وأن التكليف بقدر الوسع. إن إثارة فقه الائتلاف على مستوى المؤسسات والأفراد أمرٌ بات من ضروريات العمل الإسلامي ونحن اليوم بأمس الحاجة إلى تداول هذا الفقه وبكثافة.
إنه إذا لم يمكن التوافق فلا أقل من السير في خطوط متوازية، إن لم تتفق فلا أقل من أن لا تتقاطع، وقاعدة الشريعة العامة أنه لا واجب مع العجز وأن التكليف بقدر الوسع. إن إثارة فقه الائتلاف على مستوى المؤسسات والأفراد أمرٌ بات من ضروريات العمل الإسلامي ونحن اليوم بأمس الحاجة إلى تداول هذا الفقه وبكثافة.
وإن الذي بيني وبين أخي
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم
ولا أحمل الحقد القديم عليهم
وبين بني عمي لمختلف جداً
وإن نهشوا عرضي وفرت له عرضاً
وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم
ولا أحمل الحقد القديم عليهم
وبين بني عمي لمختلف جداً
وإن نهشوا عرضي وفرت له عرضاً
وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
وهنا أمر مهم إذ لا بد من التفكير بجدية في واقع الجيل الصاعد حيال فقه التوافق والاختلاف حتى لا تتكرر الأخطاء ولا نزال بحمد الله نرى نماذجاً لمشروعات جادة قامت على الاتحاد فأفلحت في مسيرتها وجنت ثمار زرعها.
ولا بد في هذا الصدد من تأمل هدي القرآن والسنة في الأمر بالعدل مع الصديق والعدو، ومن قراءة متأنية في السيرة النبوية وتراجم السلف وهدي العلماء في الائتلاف. إن العدل سمةٌ مميزةٌ لشريعتنا، عاش في كنفها البرُّ والفاجرُ، والمسلمُ والكافرُ، كل هؤلاء بالعدل يُحكمون ولا يُظلمون، حتى وإن أبغضنا الكافر فنحن مأمورون بالعدل معه، ذلك توجيه ربنا في كتابه العزيز: (ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى). قال ابن تيمية رحمه الله: وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار، وهو بغض مأمورٌ به، فإذا كان البغضُ الذي أمر الله به قد نُهيَ صاحبه أن يظلم من أبغضه، فكيف في بغض مسلم بتأويلٍ وشبهةٍ أو بهوى نفس ؟ فهو أحقُّ أن لا يُظلم، بل يُعدل عليه([1]).
لقد فاق المسلمون في تاريخنا المجيد غيرهم في العدل، وتجاوزوا بعدلهم أهل الملة من المسلمين إلى أهل الذمة من اليهود والنصارى، ويُذكر أن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله كتب إلى واليه على البصرة يقول له: "ثم انظر من قِبَلك من أهل الذمة قد كَبُرت سِنُّه، وضعفت قوته وولّت عنه المكاسبُ، فأجرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمرَ رضي الله عنه مرّ بشيخ من أهل الذمةِ يسألُ على أبواب الناسِ فقال: ما أنصفناك إن كنَّا أخذنا منك الجزية في شبيبتك ثم ضيّعناك في كِبرك، ثم أجري من بيت المال ما يصلحه"([2]).
إن من مظاهر العدل قبول الحقِّ ممن جاء به، فالعبرة بالقولِ لا بالقائل، وفي قصة الشيطان مع أبي هريرة رضي الله عنه حين وكَّله الرسول صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، ومجيء الشيطان إليه أكثر من مرة حتى علّمه أن يقرأ آية الكرسي إذا أوى إلى فراشه، وأنه بذلك يكون محفوظاً من الله ولا يقربه شيطانٌ حتى يصبح، في هذه القصة صدَّق الرسول صلى الله عليه وسلم القول وإن صدرَ من الشيطان حيث قال: "أما إنه قد صدقك وهو كذوب"([3]). ومن فقه هذا الحديث وفوائده ــ كما قال ابن حجر رحمه الله ــ: إن الحكمة قد يتلقّاها الفاجرُ فلا ينتفع بها، وتؤخذُ عنه فينتفع بها، وإن الكافرَ قد يصدق ببعض ما يصدق به المؤمن ولا يكون بذلك مؤمناً، وبأن الكذّاب قد يصدُقُ([4]).
وفي هذا الصدد يُذكرُ من وصايا ابن مسعود رضي الله عنه قوله لرجل قال له: أوصني بكلماتٍ جوامع، فكان مما أوصاه به أن قال: ومن أتاك بحقٍّ فاقبلْ منه وإن كان بعيداً بغيضاً، ومن أتاك بالباطل فاردُدْه وإن كان قريباً حبيباً([5]). إننا حين نفقدُ هذا الميزانَ في قبول الحقِّ قد نرفض حقاً، لأنه جاء من شخص نبغضه أو لا نهواه، أو لا نرتضي منهجه بشكل عام، علماً بأن قبول الحق الذي جاء به لا يعني موافقته في كل شيء، ولا الرضى عنه فيما يخطئُ فيه، وقد يضطرنا هذا الخلل في العدلِ في قبول الحقّ ورفض الباطل.. لقبول زلّة خطأٍ من شخصِ نحبه، ونرتضي منهجه علماً بأن رفضنا لهذه الزلَّة والخطأ منه، لا يعني بغضه ولا الانتقاص من قدره، ولا رفض بقية الحقِّ الذي جاء به. إنه العدل الذي ينبغي أن نأخذ أنفسنا به، ونتمنى به أن يُجري الله الحقَّ على ألسنتنا وألسنة خصومنا، وكم هو عظيمٌ الإمامُ الشافعيُّ رحمه الله حين قال: "ما ناظرت أحداً إلا قلتُ: اللهمّ أجرِ الحقّ على قلبه ولسانه، فإن كان الحقُّ معي اتبعني، وإن كان الحقُّ معه اتبعته"([6]).
وأين هذا يا مسلمون ممن يتمنون انحراف خصومهم، أو يرمون مخالفيهم بالباطل، ويتهمونهم وينفّرون الناس منهم، وهم مسلمون، بل قد يكونون علماء، وقد يكون ما معهم من الحق أكثر من خصومهم، فإلى الله المشتكى، وكم يتلاعبُ الشيطان أحياناً ببعض المحبين وكم يخطئُ هؤلاء وينسفون قواعد العدل وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وكم نظلم أنفسنا ونظلم غيرنا بتصنيف هذا، وتجريح ذاك، واتهام ثالث وإشعال معارك وهمية بين نفرٍ من المسلمين، الكاسبُ الأول والأخير منها هم الأعداء المتربِّصون والخاسر الأكبر هم المعتدون الفاقدون للعدل والإنصاف..
وإن كانت الخسارة تعمُّ والفتنة تقع على المسلمين! وأين نحن من هذا الموقف البديع والعدلِ حتى مع غير المسلمين يقدمه لنا شيخُ الإسلام ابن تيمية بسلوكه العمليِّ، فهو حين سعى بإطلاق سراح أسرى المسلمين من التتار أصرَّ كذلك على إطلاق سراح المأسورين من أهل الذمة قائلاً لمسؤول التتر: "بل جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمَتنا، فإنا نفكُّهم ولا ندعُ أسيراً لا من أهل الملَّة ولا من أهل الذمة"([7]). فإذا أنصفَ هذا العالمُ الربّاني وعدلَ مع غير المسلمين، وكان سبباً لفكّ أسرهم، فماذا يقولُ من يسعى للوقيعة بإخوانه المسلمين ويتمنّى الضُّرَّ لهم بشكلٍ أو بآخر؟ إن من قواعد الائتلاف إنصاف عامة المسلمين وخاصتهم.. فكيف السبيلُ لهذا الإنصاف؟ إن مما لا شك فيه أن المسلمين ــ قديماً وحديثاً ــ يتفاوتون في مراتب الإيمان، فهناك من هم في الذروة من الإيمان، وهناك من هم في أدنى درجات الإيمان، وهناك طائفةٌ في الوسط بين هؤلاء وأولئك، ولكن الجميع تجمعهم رابطة الإسلام، وحسابهم على الله، وما لم يخرج المسلم من الملة، فإن له حقاً في الموالاة على قدر إيمانه. وما من شك كذلك أن الفرقة الناجية من خيرة المسلمين، وهم أهل السنة والجماعة الذين قالوا وعملوا بالكتاب والسُّنة. ولكن دائرة المؤمنين تتسعُ لتشملَ غيرَ الفرقة الناجية من عُصاة المسلمين ومن وجد عندهم نوع انحراف.. لكنهم في دائرة الإسلام.. وهذا ما نص عليه الشيخُ ابن تيمية رحمه الله حين قال: "وإذا قال المؤمن: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، يقصد كل من سبقه من قرون الأمة بالإيمان، وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوّله فخالف السنة، أو أذنب ذنباً، فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان، فيدخل في العموم، وإن كان من الثنتين والسبعين فرقةً، فإنه ما من فرقةٍ إلا وفيها خلقٌ كثيرٌ ليسوا كفاراً، بل مؤمنون فيهم ضلالٌ وذنبٌ يستحقون به الوعيد كما يستحقه عصاةُ المؤمنين"([8]).
أيها المؤتمرون: وفي سبيل الائتلاف بين المسلمين أرشدَ العلماءُ إلى عددٍ من القواعد والآداب لا بدَّ من مراعاتها والوقوف عندها، ومنها:
ولا بد في هذا الصدد من تأمل هدي القرآن والسنة في الأمر بالعدل مع الصديق والعدو، ومن قراءة متأنية في السيرة النبوية وتراجم السلف وهدي العلماء في الائتلاف. إن العدل سمةٌ مميزةٌ لشريعتنا، عاش في كنفها البرُّ والفاجرُ، والمسلمُ والكافرُ، كل هؤلاء بالعدل يُحكمون ولا يُظلمون، حتى وإن أبغضنا الكافر فنحن مأمورون بالعدل معه، ذلك توجيه ربنا في كتابه العزيز: (ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى). قال ابن تيمية رحمه الله: وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار، وهو بغض مأمورٌ به، فإذا كان البغضُ الذي أمر الله به قد نُهيَ صاحبه أن يظلم من أبغضه، فكيف في بغض مسلم بتأويلٍ وشبهةٍ أو بهوى نفس ؟ فهو أحقُّ أن لا يُظلم، بل يُعدل عليه([1]).
لقد فاق المسلمون في تاريخنا المجيد غيرهم في العدل، وتجاوزوا بعدلهم أهل الملة من المسلمين إلى أهل الذمة من اليهود والنصارى، ويُذكر أن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله كتب إلى واليه على البصرة يقول له: "ثم انظر من قِبَلك من أهل الذمة قد كَبُرت سِنُّه، وضعفت قوته وولّت عنه المكاسبُ، فأجرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمرَ رضي الله عنه مرّ بشيخ من أهل الذمةِ يسألُ على أبواب الناسِ فقال: ما أنصفناك إن كنَّا أخذنا منك الجزية في شبيبتك ثم ضيّعناك في كِبرك، ثم أجري من بيت المال ما يصلحه"([2]).
إن من مظاهر العدل قبول الحقِّ ممن جاء به، فالعبرة بالقولِ لا بالقائل، وفي قصة الشيطان مع أبي هريرة رضي الله عنه حين وكَّله الرسول صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، ومجيء الشيطان إليه أكثر من مرة حتى علّمه أن يقرأ آية الكرسي إذا أوى إلى فراشه، وأنه بذلك يكون محفوظاً من الله ولا يقربه شيطانٌ حتى يصبح، في هذه القصة صدَّق الرسول صلى الله عليه وسلم القول وإن صدرَ من الشيطان حيث قال: "أما إنه قد صدقك وهو كذوب"([3]). ومن فقه هذا الحديث وفوائده ــ كما قال ابن حجر رحمه الله ــ: إن الحكمة قد يتلقّاها الفاجرُ فلا ينتفع بها، وتؤخذُ عنه فينتفع بها، وإن الكافرَ قد يصدق ببعض ما يصدق به المؤمن ولا يكون بذلك مؤمناً، وبأن الكذّاب قد يصدُقُ([4]).
وفي هذا الصدد يُذكرُ من وصايا ابن مسعود رضي الله عنه قوله لرجل قال له: أوصني بكلماتٍ جوامع، فكان مما أوصاه به أن قال: ومن أتاك بحقٍّ فاقبلْ منه وإن كان بعيداً بغيضاً، ومن أتاك بالباطل فاردُدْه وإن كان قريباً حبيباً([5]). إننا حين نفقدُ هذا الميزانَ في قبول الحقِّ قد نرفض حقاً، لأنه جاء من شخص نبغضه أو لا نهواه، أو لا نرتضي منهجه بشكل عام، علماً بأن قبول الحق الذي جاء به لا يعني موافقته في كل شيء، ولا الرضى عنه فيما يخطئُ فيه، وقد يضطرنا هذا الخلل في العدلِ في قبول الحقّ ورفض الباطل.. لقبول زلّة خطأٍ من شخصِ نحبه، ونرتضي منهجه علماً بأن رفضنا لهذه الزلَّة والخطأ منه، لا يعني بغضه ولا الانتقاص من قدره، ولا رفض بقية الحقِّ الذي جاء به. إنه العدل الذي ينبغي أن نأخذ أنفسنا به، ونتمنى به أن يُجري الله الحقَّ على ألسنتنا وألسنة خصومنا، وكم هو عظيمٌ الإمامُ الشافعيُّ رحمه الله حين قال: "ما ناظرت أحداً إلا قلتُ: اللهمّ أجرِ الحقّ على قلبه ولسانه، فإن كان الحقُّ معي اتبعني، وإن كان الحقُّ معه اتبعته"([6]).
وأين هذا يا مسلمون ممن يتمنون انحراف خصومهم، أو يرمون مخالفيهم بالباطل، ويتهمونهم وينفّرون الناس منهم، وهم مسلمون، بل قد يكونون علماء، وقد يكون ما معهم من الحق أكثر من خصومهم، فإلى الله المشتكى، وكم يتلاعبُ الشيطان أحياناً ببعض المحبين وكم يخطئُ هؤلاء وينسفون قواعد العدل وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وكم نظلم أنفسنا ونظلم غيرنا بتصنيف هذا، وتجريح ذاك، واتهام ثالث وإشعال معارك وهمية بين نفرٍ من المسلمين، الكاسبُ الأول والأخير منها هم الأعداء المتربِّصون والخاسر الأكبر هم المعتدون الفاقدون للعدل والإنصاف..
وإن كانت الخسارة تعمُّ والفتنة تقع على المسلمين! وأين نحن من هذا الموقف البديع والعدلِ حتى مع غير المسلمين يقدمه لنا شيخُ الإسلام ابن تيمية بسلوكه العمليِّ، فهو حين سعى بإطلاق سراح أسرى المسلمين من التتار أصرَّ كذلك على إطلاق سراح المأسورين من أهل الذمة قائلاً لمسؤول التتر: "بل جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمَتنا، فإنا نفكُّهم ولا ندعُ أسيراً لا من أهل الملَّة ولا من أهل الذمة"([7]). فإذا أنصفَ هذا العالمُ الربّاني وعدلَ مع غير المسلمين، وكان سبباً لفكّ أسرهم، فماذا يقولُ من يسعى للوقيعة بإخوانه المسلمين ويتمنّى الضُّرَّ لهم بشكلٍ أو بآخر؟ إن من قواعد الائتلاف إنصاف عامة المسلمين وخاصتهم.. فكيف السبيلُ لهذا الإنصاف؟ إن مما لا شك فيه أن المسلمين ــ قديماً وحديثاً ــ يتفاوتون في مراتب الإيمان، فهناك من هم في الذروة من الإيمان، وهناك من هم في أدنى درجات الإيمان، وهناك طائفةٌ في الوسط بين هؤلاء وأولئك، ولكن الجميع تجمعهم رابطة الإسلام، وحسابهم على الله، وما لم يخرج المسلم من الملة، فإن له حقاً في الموالاة على قدر إيمانه. وما من شك كذلك أن الفرقة الناجية من خيرة المسلمين، وهم أهل السنة والجماعة الذين قالوا وعملوا بالكتاب والسُّنة. ولكن دائرة المؤمنين تتسعُ لتشملَ غيرَ الفرقة الناجية من عُصاة المسلمين ومن وجد عندهم نوع انحراف.. لكنهم في دائرة الإسلام.. وهذا ما نص عليه الشيخُ ابن تيمية رحمه الله حين قال: "وإذا قال المؤمن: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، يقصد كل من سبقه من قرون الأمة بالإيمان، وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوّله فخالف السنة، أو أذنب ذنباً، فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان، فيدخل في العموم، وإن كان من الثنتين والسبعين فرقةً، فإنه ما من فرقةٍ إلا وفيها خلقٌ كثيرٌ ليسوا كفاراً، بل مؤمنون فيهم ضلالٌ وذنبٌ يستحقون به الوعيد كما يستحقه عصاةُ المؤمنين"([8]).
أيها المؤتمرون: وفي سبيل الائتلاف بين المسلمين أرشدَ العلماءُ إلى عددٍ من القواعد والآداب لا بدَّ من مراعاتها والوقوف عندها، ومنها:
ناصر Ù…Øمود الØ- نائب المدير
- عدد المساهمات : 246
نقاط : 532
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 11/03/2009
العمر : 115
الموقع : https://boser.ahlamontada.com/profile.forum?mode=viewprofile&u=3
رد: من فقه الإئتلاف / سليمان العودة
(1) أنهم لا يُخرجون مسلماً من الملّة إلا بتوفّر الشروط وانتفاء الموانع.
(2) ويرون أن الخطأ في الحكم بالإيمان أهونُ من الحكم بالكفر.
(3) وهم يتحفظون ويتحوّطون أكثر عند تكفير فردٍ بعينه أو لعنه.
(4) بل ولا يتسرعون في التكفير، وإن خطّأوا بدَّعوا أو فَسَّقوا.
(5) وفي مسائل الاجتهاد يرونَ أنه لا تأثيم ولا هُجران.
(6) وإذا لزمَ الهجرُ، فإنما هو للتأديب لا للإتلاف، وللشفاء لا للقتل.
(7) وهم يرون الأخذَ بالظاهر، والله يتولى السرائر، ويرون إجراءَ الأحكام على ظاهر الناس لا على القناعات القلبية، وفي هذا يقول الشاطبيُّ رحمه الله: "فإنَّ سيد البشر صلى الله عليه وسلم مع إعلامه بالوحي يُجري الأمورَ على ظواهرها في المنافقين وغيرهم، وإن علِمَ بواطنَ أحوالهم"([9]).
ومما يعينُ على الإنصاف ويحقق الائتلاف، ألاّ يكون الموالاةُ والمعاداةُ خاضعةً للانتماء والحزبية الضيِّقة والطائفة والقرابةِ والهوى، بل تكون الموالاة للحق ومع أهل الحق..
والمعاداة للباطل وأهل الباطل.. مهما كان قربُهم وبعدُهم وانتماؤهم، وهنا يُنبِّه ابنُ تيمية على صنف يغضبونَ أو يَرضون لا بقصد أن تكون كلمةُ الله العليا، وأن يكون الدينُ كلُّ لله، بل يغضبون على كلِّ من خالفهم، وإن كان مجتهداً معذوراً ــ لا يغضب الله عليه ــ ويرضون عمن كان يوافقهم، وإن كان جاهلاً سيِّء القصد، فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسولُه، ويذموا من لم يذمَّه الله ورسـوله، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواءِ أنفسهم، لا على دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ([10]).
إن من أخطائنا ــ أننا نسرف في الثناء على من أحببنا ــ أو نُسرفُ في الذمِّ، بل الهجوم أحياناً على من أبغضنا وخالفنا، وقد يكون لهذا الذي أحببنا أخطاءُ ونغضُّ الطرف عنها، وقد يكون لهذا الذي أبغضنا حسناتٌ وإيجابياتٌ غَمطناه حقَّه فيها ولم ننصفه في ذكرها، والوسطية منزلةٌ بين الغلوِّ والجفاء، ولهذا قال العلماء: "وإذا اجتمع في الرجل الواحد خيرٌ وشرٌّ وفجورٌ وطاعة، وسنةٌ وبدعة، استحق من الموالاةِ والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجباتُ الإكرام والإهانةِ، فيجتمعُ له من هذا وهذا كاللص الفقير تُقطع يده لسرقته، ويُعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته"([11]).
أيها العلماء والدعاة وطلبة العلم: وأنتم قدوةٌ لغيركم في تحقيق الائتلاف وردمِ فجواتِ الاختلاف وآثارها السيئة، وإذا كان الخلافُ وارداً في بعض مسائل العلم، وفي عددٍ من الاجتهادات والأمور الفرعية فينبغي أن يبقى حبلُ الودِّ متصلاً، فالخلاف في الرأي لا يفسدُ للودِّ قضية ــ كما يقال ــ وإذا كان الصحابة رضوان الله عليهم قد اختلفوا في بعض المسائل الاجتهادية فميزتهم أنهم كانوا مع ذلك أهلَ مودةٍ وتناصح، ومع تنازعهم في مسائل علميةٍ اعتقاديةٍ إلا أنهم حافظوا على بقاء الجماعةِ والألفة، كما قرر ذلك العلماء كالشاطبي وابن تيمية وغيرهم([12]).
ومما ينبغي التفطن له ألا يُظن أن الاختلاف بين العلماء في بعض المسائل مؤشرٌ للشرور والفساد، بل قد يكون الاختلاف رحمةً وتوسعة، ومن فقه عمر بن عبدالعزيز رحمه الله قوله: "ما يسرُّني أن أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم إذا اجتمعوا على قولٍ فخالفهم رجل كان ضالاً، وإذا اختلفوا فأخذ رجلٌ بقول هذا، ورجلٌ بقول هذا كان في الأمر سعةٌ"([13]).
ونقل ابن تيمية أن رجلاً صنف كتاباً سماه "كتاب الاختلاف" فقال الإمام أحمدُ: سمِّه "كتاب السعة"([14]).
ومع ذلك كلِّه فعلى العلماء والدعاة وطلبة العلم والوعاظ والمربين أن يسعوا إلى التأليف واجتماع الكلمة، ولو كان ذلك بترك فعل المستحبات ــ أحياناً ــ إذ أن مصلحة التأليف وجمعَ القلوب أولى وأعظمُ من فعل المستحبِّ أحياناً، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ويستحبُّ للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات، لأن مصلحة التأليف في الدين أعظمُ من مصلحة فعل مثل هذا، كما ترك النبيُّ صلى الله عليه وسلم تغييرَ بناءِ البيت، لما في إبقائه من تأليف القلوب، وكما أنكر ابنُ مسعود رضي الله عنه على عثمان رضي الله عنه، إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه مُتماً، وقال: الخلافُ شرٌ"([15]).
وليس فقيهاً من فرَّق المسلمين بفعل سنةٍ، لأنه أخل بواجبٍ، ولهذا كان الشيخ رحمه الله يرشد الأئمة إلى جمع كلمة الجماعة ولو تنازل عن بعض ما يراه ويقول: "ولو كان الإمام يرى استحباب الشيء والمأمومون لا يستحبونه، فتركه لأجل الاتفاق والائتلاف كان قد أحسن"([16]).
ومن قواعد الائتلاف استيعابُ المخالف، واستمالته للحقِّ بهدوء العبارة وحُسن المجادلة، وفتح الفرص المناسبة للحوار البنّاء، والوصول إلى نتائج طيبةٍ، أجل إن الله عزّ وجل وجّه رسوله صلى الله عليه وسلم في الحوار مع المشركين أن يقول لهم:(وإنا أو أياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين).
فالرسول صلى الله عليه وسلم على يقين أن ما عليه هو الحقُّ، وما عليه المشركون باطلٌ ولكنه أسلوبٌ من أساليب الحوار يُستمال به الخصمُ للحقِّ، ولا يقطع الطريقَ عليه لأول وهلةٍ.. وإذا أخطأنا في أساليب الحوار مع إخواننا المسلمين، ولم نُعطِ أيَّ فرصةٍ لإبداء وجهة نظر الطرف الآخر، فعلينا أن نقرأ في السيرة النبوية وسنجدُ فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحاور رمزاً من رموز الجاهلية ووتداً من أوتادِ قريش قال له: ((قل يا أبا الوليد اسمع)) ولا يبادره بسهام الحقّ ــ وهو الأعلى ــ حتى يقولَ له: ((أفرغتَ يا أبا الوليد؟)) إنه ليس ضعفاً ولا تزلفاً ولا نفاقاً، وإنما الرغبةُ في استمالته ودعوته للحق.. وقد كان شيءٌ من هذا.. ودخل في نفس الوليد شيءٌ من عظمة محمد صلى الله عليه وسلم وعظمة القرآن، حتى قالت قريش: والله لقد جاءكم الوليدُ بغير الوجهِ الذي ذهب به.. إنها ملَكةُ الحكمةِ في الدعوة، والمهارةُ في الحوار، والقدرةُ على الإقناع، وليست سفسطة، ولا جدلاً عميقاً، أو ترفاً فكرياً، ففرقٌ بين هذا وذاك! ومما يعين على الائتلاف التحذيرُ من الباطل دون التصريح بالمبطلين، إلا إذا دعتِ الحالُ للتصريح؛ ذلك أن التعريف بالضلال تعرية لأهله، وقد يعودُ صاحب الضلال إلى الحقِّ إذا لم يُشهِّرْ به، والعلماءُ يقولون: ليس كلّ ما يُعلم مما هو حقُّ يُطلبُ نشرُه.. لا سيما إن كان نشرُه يثير فتنةً. ومن سبل التأليف مخاطبة الناس بما ينفعهم وعلى قدر عقولهم وفي هذا يقول عليٌّ رضي الله عنه: ((حدِّثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرونَ، أتحبون أن يُكذَّب الله ورسوله)) وعن ابن مسعود رضي الله عنه: ((ما من رجل يُحدِّثُ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنةً لبعضهم)). ويُعدد الغزالي من وظائف المعلم المرشد: أن يقتصر بالمتعلِّم على قدْر فهمِه، فلا يُلقي إليه ما لا يبلغُه عقلُه فينفِّره، وكذلك قيل: كِلْ لكلِّ عبدٍ بمعيار عقله، وزنْ له بميزان فهمه، حتى تسلم منه، وينتفع بك، وإلا وقع الإنكارُ لتفاوت المعيار([17]).
على أن مما يوقع في الفرقة والخلاف التعالمُ والتبجحُ بذكر المسائل العلمية لمن ليس من أهلها، أو ذكرُ كبار المسائل لمن لا يحتملُ عقلهُ إلا صغارها، فمثلُ هذا يوقعُ في مصائب ونفرةٍ وخلافٍ؛ كما قرر أهل العلم([18])، فليحذر منه.
ومن قواعد الائتلاف الإنصافُ بالموازنة بين المصالح والمفاسد، فإسلامُ كافرٍ على يد مبتدع أولى من بقاءِ الكافر على كفره وتوبةُ فاجرٍ بسماعه أحاديث ضعيفة خيرٌ من بقائه على فجوره. والصلاة خلف المبتدع أولى من ترك الجماعة، بل يُستعان بالمبتدعة في تحصيل واجب عظيم، وتحتملُ مفسدةُ بدعتهم، وكذلك أخذ السلف بعض الأحاديث عن أهل بدعة القدر في البصرة حين لم يجدوها عند غيرهم من أهل السنة، بعد موازنتهم بين هجر الرواية عنهم زجراً لهم عن بدعتهم وبين مصلحة حفظ السّنة، وقررَ هذا ابن تيمية بقوله: "فلو ترك روايةُ الحديثِ عنهم لا ندرسَ العلمُ والسننُ والآثارُ المحفوظةُ فيهم". بل رتب على ذلك قاعدة عامةً ومهمةً قال فيها: "فإذا تعذّر إقامةُ الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعةٌ مضرتها دون مضرةِ ترك الواجب، كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدةٍ مرجوحةٍ معه خيراً من العكس"([19]).
(2) ويرون أن الخطأ في الحكم بالإيمان أهونُ من الحكم بالكفر.
(3) وهم يتحفظون ويتحوّطون أكثر عند تكفير فردٍ بعينه أو لعنه.
(4) بل ولا يتسرعون في التكفير، وإن خطّأوا بدَّعوا أو فَسَّقوا.
(5) وفي مسائل الاجتهاد يرونَ أنه لا تأثيم ولا هُجران.
(6) وإذا لزمَ الهجرُ، فإنما هو للتأديب لا للإتلاف، وللشفاء لا للقتل.
(7) وهم يرون الأخذَ بالظاهر، والله يتولى السرائر، ويرون إجراءَ الأحكام على ظاهر الناس لا على القناعات القلبية، وفي هذا يقول الشاطبيُّ رحمه الله: "فإنَّ سيد البشر صلى الله عليه وسلم مع إعلامه بالوحي يُجري الأمورَ على ظواهرها في المنافقين وغيرهم، وإن علِمَ بواطنَ أحوالهم"([9]).
ومما يعينُ على الإنصاف ويحقق الائتلاف، ألاّ يكون الموالاةُ والمعاداةُ خاضعةً للانتماء والحزبية الضيِّقة والطائفة والقرابةِ والهوى، بل تكون الموالاة للحق ومع أهل الحق..
والمعاداة للباطل وأهل الباطل.. مهما كان قربُهم وبعدُهم وانتماؤهم، وهنا يُنبِّه ابنُ تيمية على صنف يغضبونَ أو يَرضون لا بقصد أن تكون كلمةُ الله العليا، وأن يكون الدينُ كلُّ لله، بل يغضبون على كلِّ من خالفهم، وإن كان مجتهداً معذوراً ــ لا يغضب الله عليه ــ ويرضون عمن كان يوافقهم، وإن كان جاهلاً سيِّء القصد، فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسولُه، ويذموا من لم يذمَّه الله ورسـوله، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواءِ أنفسهم، لا على دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ([10]).
إن من أخطائنا ــ أننا نسرف في الثناء على من أحببنا ــ أو نُسرفُ في الذمِّ، بل الهجوم أحياناً على من أبغضنا وخالفنا، وقد يكون لهذا الذي أحببنا أخطاءُ ونغضُّ الطرف عنها، وقد يكون لهذا الذي أبغضنا حسناتٌ وإيجابياتٌ غَمطناه حقَّه فيها ولم ننصفه في ذكرها، والوسطية منزلةٌ بين الغلوِّ والجفاء، ولهذا قال العلماء: "وإذا اجتمع في الرجل الواحد خيرٌ وشرٌّ وفجورٌ وطاعة، وسنةٌ وبدعة، استحق من الموالاةِ والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجباتُ الإكرام والإهانةِ، فيجتمعُ له من هذا وهذا كاللص الفقير تُقطع يده لسرقته، ويُعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته"([11]).
أيها العلماء والدعاة وطلبة العلم: وأنتم قدوةٌ لغيركم في تحقيق الائتلاف وردمِ فجواتِ الاختلاف وآثارها السيئة، وإذا كان الخلافُ وارداً في بعض مسائل العلم، وفي عددٍ من الاجتهادات والأمور الفرعية فينبغي أن يبقى حبلُ الودِّ متصلاً، فالخلاف في الرأي لا يفسدُ للودِّ قضية ــ كما يقال ــ وإذا كان الصحابة رضوان الله عليهم قد اختلفوا في بعض المسائل الاجتهادية فميزتهم أنهم كانوا مع ذلك أهلَ مودةٍ وتناصح، ومع تنازعهم في مسائل علميةٍ اعتقاديةٍ إلا أنهم حافظوا على بقاء الجماعةِ والألفة، كما قرر ذلك العلماء كالشاطبي وابن تيمية وغيرهم([12]).
ومما ينبغي التفطن له ألا يُظن أن الاختلاف بين العلماء في بعض المسائل مؤشرٌ للشرور والفساد، بل قد يكون الاختلاف رحمةً وتوسعة، ومن فقه عمر بن عبدالعزيز رحمه الله قوله: "ما يسرُّني أن أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم إذا اجتمعوا على قولٍ فخالفهم رجل كان ضالاً، وإذا اختلفوا فأخذ رجلٌ بقول هذا، ورجلٌ بقول هذا كان في الأمر سعةٌ"([13]).
ونقل ابن تيمية أن رجلاً صنف كتاباً سماه "كتاب الاختلاف" فقال الإمام أحمدُ: سمِّه "كتاب السعة"([14]).
ومع ذلك كلِّه فعلى العلماء والدعاة وطلبة العلم والوعاظ والمربين أن يسعوا إلى التأليف واجتماع الكلمة، ولو كان ذلك بترك فعل المستحبات ــ أحياناً ــ إذ أن مصلحة التأليف وجمعَ القلوب أولى وأعظمُ من فعل المستحبِّ أحياناً، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ويستحبُّ للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات، لأن مصلحة التأليف في الدين أعظمُ من مصلحة فعل مثل هذا، كما ترك النبيُّ صلى الله عليه وسلم تغييرَ بناءِ البيت، لما في إبقائه من تأليف القلوب، وكما أنكر ابنُ مسعود رضي الله عنه على عثمان رضي الله عنه، إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه مُتماً، وقال: الخلافُ شرٌ"([15]).
وليس فقيهاً من فرَّق المسلمين بفعل سنةٍ، لأنه أخل بواجبٍ، ولهذا كان الشيخ رحمه الله يرشد الأئمة إلى جمع كلمة الجماعة ولو تنازل عن بعض ما يراه ويقول: "ولو كان الإمام يرى استحباب الشيء والمأمومون لا يستحبونه، فتركه لأجل الاتفاق والائتلاف كان قد أحسن"([16]).
ومن قواعد الائتلاف استيعابُ المخالف، واستمالته للحقِّ بهدوء العبارة وحُسن المجادلة، وفتح الفرص المناسبة للحوار البنّاء، والوصول إلى نتائج طيبةٍ، أجل إن الله عزّ وجل وجّه رسوله صلى الله عليه وسلم في الحوار مع المشركين أن يقول لهم:(وإنا أو أياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين).
فالرسول صلى الله عليه وسلم على يقين أن ما عليه هو الحقُّ، وما عليه المشركون باطلٌ ولكنه أسلوبٌ من أساليب الحوار يُستمال به الخصمُ للحقِّ، ولا يقطع الطريقَ عليه لأول وهلةٍ.. وإذا أخطأنا في أساليب الحوار مع إخواننا المسلمين، ولم نُعطِ أيَّ فرصةٍ لإبداء وجهة نظر الطرف الآخر، فعلينا أن نقرأ في السيرة النبوية وسنجدُ فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحاور رمزاً من رموز الجاهلية ووتداً من أوتادِ قريش قال له: ((قل يا أبا الوليد اسمع)) ولا يبادره بسهام الحقّ ــ وهو الأعلى ــ حتى يقولَ له: ((أفرغتَ يا أبا الوليد؟)) إنه ليس ضعفاً ولا تزلفاً ولا نفاقاً، وإنما الرغبةُ في استمالته ودعوته للحق.. وقد كان شيءٌ من هذا.. ودخل في نفس الوليد شيءٌ من عظمة محمد صلى الله عليه وسلم وعظمة القرآن، حتى قالت قريش: والله لقد جاءكم الوليدُ بغير الوجهِ الذي ذهب به.. إنها ملَكةُ الحكمةِ في الدعوة، والمهارةُ في الحوار، والقدرةُ على الإقناع، وليست سفسطة، ولا جدلاً عميقاً، أو ترفاً فكرياً، ففرقٌ بين هذا وذاك! ومما يعين على الائتلاف التحذيرُ من الباطل دون التصريح بالمبطلين، إلا إذا دعتِ الحالُ للتصريح؛ ذلك أن التعريف بالضلال تعرية لأهله، وقد يعودُ صاحب الضلال إلى الحقِّ إذا لم يُشهِّرْ به، والعلماءُ يقولون: ليس كلّ ما يُعلم مما هو حقُّ يُطلبُ نشرُه.. لا سيما إن كان نشرُه يثير فتنةً. ومن سبل التأليف مخاطبة الناس بما ينفعهم وعلى قدر عقولهم وفي هذا يقول عليٌّ رضي الله عنه: ((حدِّثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرونَ، أتحبون أن يُكذَّب الله ورسوله)) وعن ابن مسعود رضي الله عنه: ((ما من رجل يُحدِّثُ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنةً لبعضهم)). ويُعدد الغزالي من وظائف المعلم المرشد: أن يقتصر بالمتعلِّم على قدْر فهمِه، فلا يُلقي إليه ما لا يبلغُه عقلُه فينفِّره، وكذلك قيل: كِلْ لكلِّ عبدٍ بمعيار عقله، وزنْ له بميزان فهمه، حتى تسلم منه، وينتفع بك، وإلا وقع الإنكارُ لتفاوت المعيار([17]).
على أن مما يوقع في الفرقة والخلاف التعالمُ والتبجحُ بذكر المسائل العلمية لمن ليس من أهلها، أو ذكرُ كبار المسائل لمن لا يحتملُ عقلهُ إلا صغارها، فمثلُ هذا يوقعُ في مصائب ونفرةٍ وخلافٍ؛ كما قرر أهل العلم([18])، فليحذر منه.
ومن قواعد الائتلاف الإنصافُ بالموازنة بين المصالح والمفاسد، فإسلامُ كافرٍ على يد مبتدع أولى من بقاءِ الكافر على كفره وتوبةُ فاجرٍ بسماعه أحاديث ضعيفة خيرٌ من بقائه على فجوره. والصلاة خلف المبتدع أولى من ترك الجماعة، بل يُستعان بالمبتدعة في تحصيل واجب عظيم، وتحتملُ مفسدةُ بدعتهم، وكذلك أخذ السلف بعض الأحاديث عن أهل بدعة القدر في البصرة حين لم يجدوها عند غيرهم من أهل السنة، بعد موازنتهم بين هجر الرواية عنهم زجراً لهم عن بدعتهم وبين مصلحة حفظ السّنة، وقررَ هذا ابن تيمية بقوله: "فلو ترك روايةُ الحديثِ عنهم لا ندرسَ العلمُ والسننُ والآثارُ المحفوظةُ فيهم". بل رتب على ذلك قاعدة عامةً ومهمةً قال فيها: "فإذا تعذّر إقامةُ الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعةٌ مضرتها دون مضرةِ ترك الواجب، كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدةٍ مرجوحةٍ معه خيراً من العكس"([19]).
ناصر Ù…Øمود الØ- نائب المدير
- عدد المساهمات : 246
نقاط : 532
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 11/03/2009
العمر : 115
الموقع : https://boser.ahlamontada.com/profile.forum?mode=viewprofile&u=3
رد: من فقه الإئتلاف / سليمان العودة
ومما يسهم في الائتلاف بين المؤمنين قابليةُ التنازل لمصلحة الجماعةِ، وإن كان المتنازلُ أحقَّ من غيره، وفي أحدِ غزواتِ المسلمين ــ ذات السلاسل ــ أمّرَ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص رضي الله عنه، ثم بعث له مدداً من المهاجرين فيهم أبو بكر وعمر، وأمّر عليهم أبا عبيدة ابن الجراح رضي الله عنه، فلما وصل المددُ قال عمرو: أنا أميرُكم، فقال المهاجرون: بل أنت أميرُ أصحابك، وأميرنا أبو عبيدة، فقال عمرو: إنما أنتم مددٌ أمددتُ بكم، فلما رأى ذلك أبو عبيدة، وكان رجلاً حسنَ الخُلُق، ليّنَ الشيمة، متبعاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم محباً للتأليفِ والجماعة، سلَّم الإِمرة لعمرو وجمع الكلمة([20]).
وحين يُوصي العلماء والدعاة وطلبة العلم بالحرص على الائتلاف ودفع الاختلاف بكلِّ وسيلة فلا يعني ذلك تميع الدين، أو السكوت عن الحق وكشف الباطل.. لكنه الأدبُ في الاختلاف والسعيُ بكلِّ وسيلة للائتلاف، وكم هو رائعٌ أن يدفعَ العلماءُ مفسدةَ فتنة العامة، بإظهار الودِّ وتقدير بعضهم لبعض، وعدم التنازع على مشهد من الناس، ومما يُذكر في ذلك أن الإمام أحمد، وإسحاق وعبد الرزاق خرجوا إلى المصلى في عيد الفطر ــ وكان أحمد وإسحاق يرون سُنيةَ التكبير لعيد الفطر، بينما لا يرى عبد الرزاق سنيةَ التكبير في عيد الأضحى، ولكن ما الذي حصل في المُصلَّى؟ لم يكبر أحمدُ وإسحاق مراعاة لاجتهاد عبد الرزاق، وعبد الرزاق عجب من عدم تكبيرهما، وقال: لو كبّرتما لكبِّرت معكما، مداراة لاجتهادهما، ودفعاً لفتنةِ العوام([21]). وهكذا يحرص العلماء على توحيد المواقف أمام الناس، وإن اختلفت اجتهاداتهم في بعض المسائل. ويُوصى العلماء وطلبة العلم ــ كذلك ــ في سبيل الائتلاف ودفع الاختلاف والفرقة بالسكوت أحياناً عن بعض المسائل غير المألوفة، لا سيما إذا كان الخلاف فيها جارياً، ونشرها بين الناس يحدث فتنةً لبعضهم، وهنا يرشد الشاطبي رحمه الله إلى ضابط لعرض المسائل الشرعية المثيرة ويقول: "وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحّت في ميزانها، فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤدِّ ذكرها إلى مفسدة فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها، إما على العموم، إن كانت مما تقبله العقولُ على العموم، وإما على الخصوص، إن كانت غيرَ لائقةٍ بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغُ فالسكوت عنها هو الجاري على وفقِ المصلحة الشرعية والعقلية"([22]). ومع هذه الوصايا للعلماء والدعاة وطلبة العلم يوصى عوامُّ المسلمين وغيرُ المتفقهين منهم بالثقة بأهل العلم، وتوسيع المدارك، وعدم العجلة بإصدار الأحكام، وعدم الفرح بالخلاف يقع بين العالمين، وبعدم التشكك في شيء من دين الله، إذ الخلاف يقع في فروع الدين لا في أصوله، وقد يكون في هذا الاختلاف رحمةٌ وسعةٌ، وحين يقع التنازع فلا بد من ردِّه إلى الله ورسوله وإلى ورثة الأنبياء عليهم السلام. أيها المؤتمرون: كم نحن بحاجةٍ جميعاً إلى التفقه في الدِّين، ذلك التفقه الذي يجمع ويؤلف ويهدي ويرشد، وكم نحن بحاجة إلى أن نبلغ بديننا ما بلغ الليل والنهار، دون أن نهدرَ شيئاً من طاقاتنا في الوقيعة والخلاف بين المسلمين..
وإنني بهذه المناسبة أوصي بقراءة كتاب نافع ــ كذا أحسبُه والله حسيبنا جميعاً ــ هذا الكتاب صدر مؤخراً بعنوان "فقه الائتلاف وقواعد التعامل مع المخالفين بالإنصاف" ومؤلفه محمود محمد الخزندار، وهو من مطبوعات دار طيبة في الرياض، أسأل الله أن يجزل المثوبة لمؤلفه وأن ينفع به، وأن يعلّمنا جميعاً ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علَّمنا.
([1]) منهاج السنة: 5/127.
([2]) أحكام أهل الذمة لابن القيم، تحقيق صبحي الصالح 1/38.
([3]) رواه البخاري برقم 2311.
([4]) الفتح 4/616 ح 2311.
([5]) الأحكام في أصول الأحكام لابن حزم: 4/586، عن كتاب "فقه الائتلاف" محمود الخزندار ص98.
([6]) عن فقه الائتلاف ص104.
([7]) حياة شيخ الإسلام، محمد بهجت البيطار ص15، عن الرسالة القبرصية، فقه الائتلاف: 47.
([8]) منهاج السنة: 5/240، 241 عن فقه الائتلاف: 186.
([9]) الموافقات: 2/271، عن فقه الائتلاف: 199.
([10]) منهاج السنة: 3/64.
([11]) الفتاوى لابن تيمية: 28/209.
([12]) الموافقات: 4/186، الفتاوى: 19/123.
([13]) الفتاوى: 30/80.
([14]) الفتاوى: 14/159، فقه الائتلاف: 27.
([15]) الفتاوى: 22/407.
([16]) الفتاوى: 22/268.
([17]) الإحياء: 1/55، 56.
([18]) الموافقات للشاطبي: 1/87.
([19]) الفتاوى: 28/212، فقه الائتلاف: 248.
([20]) ترجمة أبي عبيدة في سير أعلام النبلاء: 1/5 ــ 23.
([21]) سير أعلام النبلاء: 12/214 ــ 221، ترجمة محمد بن رافع.
([22]) الموافقات: 4/191 عن فقه الائتلاف، محمود الخزندار: 247.
(مقال طيب انتفعت به ونقلته من موقع أنا المسلم رجاء أن ينتفع به الأخوة)
وجزا الله كاتبه الشيخ سليمان العودة خير الجزاء
عدل سابقا من قبل ناصر محمود العلي في الأربعاء سبتمبر 02, 2009 1:05 am عدل 1 مرات
ناصر Ù…Øمود الØ- نائب المدير
- عدد المساهمات : 246
نقاط : 532
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 11/03/2009
العمر : 115
الموقع : https://boser.ahlamontada.com/profile.forum?mode=viewprofile&u=3
رد: من فقه الإئتلاف / سليمان العودة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الحبيب ناصر الحريري ... جزاك الله خيرا" على هذا النقل والإختيار الموفق
ونسأل الله ان يجعل ذلك في ميزان حسناتك وان ينفعنا بما علمنا انه ولي ذلك والقادر عليه .
لك مني.. المحبة والوداد .
واسلم لأخيك
الأخ الحبيب ناصر الحريري ... جزاك الله خيرا" على هذا النقل والإختيار الموفق
ونسأل الله ان يجعل ذلك في ميزان حسناتك وان ينفعنا بما علمنا انه ولي ذلك والقادر عليه .
لك مني.. المحبة والوداد .
واسلم لأخيك
ابو نصرالله- عدد المساهمات : 29
نقاط : 37
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 28/07/2009
رد: من فقه الإئتلاف / سليمان العودة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الحبيب ناصر الحريري ... جزاك الله خيرا" على هذا النقل والإختيار الموفق
ونسأل الله ان يجعل ذلك في ميزان حسناتك وان ينفعنا بما علمنا انه ولي ذلك والقادر عليه .
لك مني.. المحبة والوداد .
واسلم لأخيك
الأخ الحبيب ناصر الحريري ... جزاك الله خيرا" على هذا النقل والإختيار الموفق
ونسأل الله ان يجعل ذلك في ميزان حسناتك وان ينفعنا بما علمنا انه ولي ذلك والقادر عليه .
لك مني.. المحبة والوداد .
واسلم لأخيك
ابو نصرالله- عدد المساهمات : 29
نقاط : 37
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 28/07/2009
رد: من فقه الإئتلاف / سليمان العودة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الحبيب ناصر الحريري ... جزاك الله خيرا" على هذا النقل والإختيار الموفق
ونسأل الله ان يجعل ذلك في ميزان حسناتك وان ينفعنا بما علمنا انه ولي ذلك والقادر عليه .
لك مني.. المحبة والوداد .
واسلم لأخيك
الأخ الحبيب ناصر الحريري ... جزاك الله خيرا" على هذا النقل والإختيار الموفق
ونسأل الله ان يجعل ذلك في ميزان حسناتك وان ينفعنا بما علمنا انه ولي ذلك والقادر عليه .
لك مني.. المحبة والوداد .
واسلم لأخيك
ابو نصرالله- عدد المساهمات : 29
نقاط : 37
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 28/07/2009
رد: من فقه الإئتلاف / سليمان العودة
شابو نصرالله كتب:بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الحبيب ناصر الحريري ... جزاك الله خيرا" على هذا النقل والإختيار الموفق
ونسأل الله ان يجعل ذلك في ميزان حسناتك وان ينفعنا بما علمنا انه ولي ذلك والقادر عليه .
لك مني.. المحبة والوداد .
واسلم لأخيك
مرحباً بأخي الحبيب الغالي أبو نصرالله
تحية لقلبك الطيب ووجهك المشرق
أسعدني مروركم الكريم أخي أبو نصرالله، وهذفنا أولاً وآخراً أن ننقل الكلمة الطيبة والفكرة الراقبة والدرس الهادف،
وكل ما يمكنه أن يكون نافعاً ومفيداً لأبناء قريتنا التي نرى أنه لها في أعناقنا دين وجب الوفاء به
ولا أقل من أن نساهم في بناء هذا المنتدى ونرتقي به إلى المستوى اللائق...
اشكرك من قلبي وأتمنى أن نتواصل على الخير والعطاء المثمر
وكل عام وأنتم وأسرتكم الكريمة بألف خير وعافية
ناصر Ù…Øمود الØ- نائب المدير
- عدد المساهمات : 246
نقاط : 532
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 11/03/2009
العمر : 115
الموقع : https://boser.ahlamontada.com/profile.forum?mode=viewprofile&u=3
:: القسم الديني
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الخميس أغسطس 02, 2012 10:47 am من طرف بنت ازرع
» ملخص وتذكرة بسيطة عن مدينة بصر الحرير ....
الأربعاء يوليو 04, 2012 11:07 am من طرف بنت ازرع
» عاجل بصر الحرير البطلة
الجمعة يونيو 22, 2012 2:37 am من طرف بنت ازرع
» قصف مدينة بصر الحرير بالهاون
الأحد يونيو 17, 2012 2:10 am من طرف بنت ازرع
» حوران منتصف النهار آخر الاحداث
الأحد يونيو 17, 2012 2:03 am من طرف بنت ازرع
» عاجل من بصر الحرير حفظها الله
الخميس يونيو 14, 2012 10:42 am من طرف بنت ازرع
» اوطى قمة بالعالم لموسوعة جنيس
الخميس مايو 03, 2012 5:43 am من طرف بنت ازرع
» شهداء الفزعة لكي لا ننسى رحمكم الله
الخميس مايو 03, 2012 5:38 am من طرف بنت ازرع
» عمل خاص حوران بصرالحریر
الأحد أبريل 29, 2012 12:02 am من طرف بنت ازرع