بحـث
المواضيع الأخيرة
مناسك الحج
:: القسم الديني
صفحة 1 من اصل 1
مناسك الحج
رقم الدرس : لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي
رقم الشريط :19/512
التاريخ : 26/6/88
الموضوع :الفقه الإسلامي : مناسك الحج .
تفريغ :السيد أحمد مالك .
مراجعة النص مع الشريط :
تدقيق لغوي :
تنقيح نهائي :
التدقيق اللغوي مع التنزيل : أحمد مالك .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا ، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا ، وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه ، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه ، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ بمناسبة قرب موسم الحجِّ سنبدأ الحديثَ عن بعض أحكام الحجِّ ، وسأخصِّص درسًا للإخوة الأكارم الذين يزمعون أداء فريضة الحج هذا العام ، وفي آخر الدرس سأحدِّد هذا الدرس .
تعريف الحج :
الحج - بفتح الحاء وبكسرها - فلك أن تقول حَج وحِج ، الأول اسمٌ والثاني مصدر حَجَّ يحُجُّ حِجًّا ، وهو القصد إلى معظَّمٍ ، أي أن تتَّجه إلى مكان عظيم ، أو إلى شيء عظيم ، هذا معنى الحجِّ في اللُّغة ، وأما تعريف الحج شرعًا ، فهو زيارة بقاع مخصوصة ، في زمن مخصوص، بفعلٍ مخصوص ، والمرادُ بالزيارة الطَّوافُ حول البيت العتيق ، الكعبة المشرَّفة ، و الوقوف بعرفة ، و أما البقاع المخصوصة فهي الكعبة و عرفة و أما الزمن المخصوص ففي الطَّواف من طلوع فجر يوم النحر إلى آخر العمر ، و في الوقوف بعرفة من زوال شمس يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر ، إذًا هو زيارة بقاع مخصوصة ، في زمن مخصوص ، بفعل مخصوص .
مكانة الحج في الإسلام :
الحجُّ أيها الإخوة ركنٌ كبيرٌ من أركان الإسلام ، فرضه اللهٌ تعالى على المستطيع فإذا كان الإنسانُ فقيرًا و بحث عن مبلغ يستقرضه ، نقول له : لا ، لا حجَّ عليك ، الحجُّ على المستطيع ، الحجُّ أحد أركان الإسلام الخمسة ، و لكنَّ اللهَ سبحانه تعالى فرضَه على المستطيع أي إنَّ أغلبَ الظنِّ أنَّ المستطيع مشغولٌ بماله ، وكأنَّ اللهَ سبحانه وتعالى يقول له : تعالَ إليَّ ودعْ بيتَك الفخمَ ، وتجارتَك العريضةَ ، ومكانتك المرموقة وتعالَ إليَّ ، فيقول الحاجُّ : لبَّيك اللهمَّ لبَّيك .
قال تعالى :
[سورة آل عمران]
وعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ ؛ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ؛ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؛ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَالْحَجِّ ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ *
[رواه البخاري]
فأركان الإسلام ؛ شهادةُ أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحجُّ البيت ، أمَّا إذا قلنا : بنِيَ الإسلامُ على خمسٍ ، شهادةِ - بالكسر - فهي بدل مِن خمسٍ ، أن لا إله إلا الله ، وإقامِ الصلاة ، وإيتاءِ الزكاة ، وصومِ رمضان وحجِّ البيت .
الحجُّ فرضُ عينٍ ، وكلُّكم يعلم أنَّ هناك فروضُ كفاية إذا قام بها البعض سقطت عن الكلِّ ، كصلاة الجنازة ، ولكنَّ الحجَّ فرضُ عين على المستطيع ، يُكَفَّرُ جاحدُه ، ويُفسَّق تاركُه وهو فرضٌ في العمُر مرَّةً واحدةً ، لحديث الأقرع بن حابس ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ خَطَبَنَا يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْحَجُّ ، قَالَ فَقَامَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ فَقَالَ : فِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ لَوْ قُلْتُهَا لَوَجَبَتْ ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهَا ، أَوْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْمَلُوا بِهَا ، فَمَنْ زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ *
[رواه أحمد]
وقد انعقد إجماعُ المسلمين أنه واجبٌ على الفور ، من حين الاستطاعة ، و الدليل قول النبيَِ عليه الصلاة و السلام عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ ، يَعْنِي الْفَرِيضَةَ ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ *
[رواه أحمد]
وقد ثبتتْ فرضيةُ الحجِّ بالكتاب الكريم ، قال تعالى :
[سورة آل عمران]
ولقول الله عزوجل :
[سورة الحج]
فلا يعرف معانيَ هذه الآيات إلا من ذاق و أدَّى هذه الفريضة بإخلاص و بصدق .
والآية الثالثة التي تؤكِّد فرضية الحجِّ قولُه تعالى :
[سورة البقرة]
إذًا الحجُّ ثبت بنص القرآن الكريم ، ونصُّ القرآن الكريم كما تعلمون قطعيُّ الثبوتِ وهذه الآيات قطعية الدِّلالة ، وبالسُّنة المطهَّرة ، لقول النبيّ عليه الصلاة و السلام فيما رواه أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ : خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ فقال: أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا ، فَقَالَ رَجُلٌ : أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَسَكَتَ ، حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قُلْتُ : نَعَمْ لَوَجَبَتْ ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ ، ثُمَّ قَالَ ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ *
[رواه مسلم]
لَوَجَبَتْ - أي في كلِّ عام - إذًا هو في العمر مرة واحدة ، ودائمًا الذي سكت عنه الشَّرعُ فيه حكمةٌ بالغةٌ ، قال عليه الصلاة و السلام : إن الله أمركم بأشياء ، ونهاكم عن أشياء وسكت عن أشياء" فسكوتُ الشارع الحكيم عن بعض الأمور توسعةٌ على المسلمين ، و الذي أمر به الشرعُ لا يقلُّ حكمةً عن الذي سكت عنه ، والشرعُ حكيم فيما أمر به ، وفيما نهى عنه ، وفيما سكت عنه ، فإن الله كتب عليكم الحج ، ولم يحدِّد النبيُّ ، بل أطلقه ، وسكت النبيُ الكريم ، قال : كل عام مرة ، ثانية ، بقي ساكتًا ، ثم قال أفي كل عام ؟ فقال عليه الصلاة و السلام : لو قلتُ نعم لوجبت - أي في كلِّ عام - و لما استطعتم ، لأنّ هذا فوق طاقتكم ، و في رواية أخرى لهذا الحديث حينما قال : أفي كل عام فقال عليه الصلاة و السلام : لو قلتها لوجبت ، و لو وجبتْ - أي في كل عام - لم تعملوا بها و لن تستطيعوا أن تعملوا بها " الحج مرة ، فمن زاد فهو تطوُّع .
وهناك حديثٌ آخر عامٌّ يبيِّن أنَّ المؤمنَ لا ينبغي له أن يكثر من السؤال إذا سكت النبيُّ عليه الصلاة والسلام عن بعض الأشياء ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ، فَقَالَ رَجُلٌ : فِي كُلِّ عَامٍ ، فَسَكَتَ عَنْهُ حَتَّى أَعَادَهُ ثَلَاثًا، فَقَالَ : لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ ، وَلَوْ وَجَبَتْ مَا قُمْتُمْ بِهَا ، ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالشَّيْءِ فَخُذُوا بِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ
[رواه النسائي]
أي دعوني ما دمتُ قد سكتُّ عن شيء ، فلا تسألوني عنه ، ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ ... وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ ، انظُرْ فإنَّ الاستقامة مطلقةٌ ، والأعمالُ الصالحة فبمقتضى الاستطاعة ، أمَّا المنهياتُ فيجب أن تُترَك كلِّيًّا ، وإلا وقع الحجابُ بين العبد وبين الله عزوجلَّ أمَّا المأموراتُ المندوباتُ فنأخذ منها بقدر ما نستطيع ، وقد أجمعت الأمَّةُ الإسلامية على فرضية الحجِّ على المستطيع ، كما أجمعت على فرضية الصلاة و الصوم والزكاة ، إذًا فرضيةُ الحجِّ ثبتت بالكتاب والسُّنة و الإجماع ، و الكتابُ والسُّنةُ أصلانِ كبيران من أصول التشريع والإجماعُ والقياسُ أصلانِ فرعيانِ منه .
تحدَّثتُ يوم الجمعة في الخطبة عن فوائد الحجِّ ، وكيف أن الحجًّ رحلة إلى الله عزوجل ، وتفريغٌ لهذه النفس من مشاغل الدنيا ، وتسريعٌ في إقبال العبد على الله عزوجل ورحلة تدريب على الرحلة الأخيرة إلى الدار الآخرة ، رحلةٌ قبل الأخيرة ، فهي رحلةٌ إلى الله عزوجل ، بل انسلاخٌ من الأقنعة الكاذبة التي نتوهَّمها كقناعِ المال ، هذا القناعُ ُيخلَع عنك في الحجِّ ، وقناعُ المكانة الاجتماعية ، وقناعُ المُتَع التي تمارسها و أنت في بلدك ، هذه الأقنعة كلُّها ستسقط عن صاحبها في الحجِّ ، كأنَّ الحجَّ يعيدك إلى حجمك الحقيقي ، وكأنَّك هناك تتفرَّغ إلى الإقبال على الله عزوجل ، من أجل أن تذوق طعمَ قربه ، وعلى كلٍّ ؛ كان الحديث يوم الجمعة طويلًا عن فوائد الحجُّ ، وقد غلبَ على هذا الدرس الطابعُ الفقهي ، لذلك ننتقل إلى شروط وجوبه .
الحجُّ فرض عين على المسلم ، فمن شروط وجوبه الإسلام ، فلا يجب الحجُّ على غير المسلم ، فلو أنّ إنسانًا كافرًا كان مستطيعا ماليًا أو أنّ إنسانًا كافرًا غنيًّا أسلم ثم افتقر فرَضًا هل عليه الحجُّ ؟ لا ، لأنه لمَّا كان كافرا مستطيعًا لم يكن محلَّ الخطاب ، فهذه نقطةٌ مهمَّةٌ ، لأنّ من شروط الحجِّ الإسلام ، فلا يجب على غير المسلم ، لعدم خطاب الكافر بالفروع ، و من شروطه العقلُ ، فلا يجب على المجنون لأنه ليس أهلا للتَّكليف ، لفقده أداةَ فهم الخطاب ومعرفة الأحكام ، وإذا أخذ ما أوهب أسقط ما أوجب ، والبلوغ فلا يجب على الصغير لأن التكليفَ يبدأ بالبلوغ ، لكنَّك ترى في الحجِّ أطفالاً صغارا يرتدون ثياب الإحرام و يحُجُّون مع آباءهم ، فهذا من قبيل التدريب والتَّبرُّك ، ولكنَّ الصغير ليس عليه الحجُّ ، والحرِّيةُ ، فلا يجب الحجُّ على العبد ويقاس على العبودية مَن فَقَدَ حرِّيته ، كَمَن كان مسجونا ، فليس عليه الحجُّ ، فلا يجب على العبد لأن الحجّ فريضةٌ بدنيَّة مالية ، والعبدُ وما ملكتْ يده لسيِّده .
فلو حجَّ الصبيُّ ، أو حجَّ العبدُ مع سيِّده وقع حجُّهما نفلاً ، لا فريضةً ، بمعنى أن الصبيَّ إذا كبُر عليه حجَّة الإسلام ، و أن العبد إذا أعتِق عليه حجَّة الإسلام ، ويُشترط العلمُ بفرضية الحجِّ لمن أسلم بدار الحرب ، أي إن الإنسان إذا أسلم حديثًا في دار الحرب - نحن عندنا ثلاثُ دور ، دارُ الإسلام ، فرجل نشأ في بيئة مسلمة ، نشأ في الشام ، و يقول : واللهِ أنا لا علمَ لي بالحجِّ ، هذا كلامٌ مرفوض ، أو إنسان نشأ في بلاد إسلامية وليس عنده علم بأن الحجَّ قد فُرِض عليه ، هذا كلام مرفوض أيضًا ، هذه دار الإسلام فلا جهل فيها ، وعندنا دار الحرب ، و عندنا دار الكفر ، و ثمَّة احتمال أن يسلم الإنسانُ في أثناء الحرب ، في أثناء الفتوح ، أسلم وقد ودخل في أشهر الحج ، هذا ليس علمه بفرضية الحج قائمًا ، ومن شروط الحج العلمُ بفرضية الحج لمن أسلم بدار الحرب ، أما مَن أسلم بدار الإسلام فلا يُشترَط العلمُ ، بل يُعدُّ وجودُه في دار الإسلام علمًا ، وما دمتَ في دار الإسلام فأنت قطعًا تعلم أن الحج فرضٌ.
وتأسيسا على هذه الأفكار أقول : يجب الحجُّ على العبد بعد العتق ، وعلى الصبيِّ بعد البلوغ ، و على المجنون بعد أن يعود إلى عقله ، دخل المِصحَّ فصحا وجب الحجُّ عليه ، وقد كان ساقطًا عنه حينما كان عبدا أوصبيًّا أو مجنونا ، والنقطة الدقيقة أنَّ الفقيرَ إذا حجَّ يقع حجُّه عن الفريضة ، فإذا كان الإنسان متشوِّقًا كثيرا ، وكان فقيرا وجمَّع قرشين وأعانه الناسُ ذهب إلى الحجِّ ، هل نقول له : هذه حجَّةٌ نافلةٌ ؟ لا ، فإذا حجَّ الفقيرُ يقع حجُّه عن الفريضة ، أي لا تلزَمه حَجَّةٌ أخرى ، و لو أصبح فيما بعدُ غنيًّا ، هكذا الحكمُ الشرعي .
ومن شروط الحجِّ أن يُؤدَّى في الوقت المناسب ، ووقتُ الحجِّ هو أشهر الحجِّ ، فمن ملك مالًا و صرفه في غير أشهر الحجِّ ، كَمَن كانت لديه خمسون ألف ليرة ، واشترى بها دكَّانا في غير أشهر الحجِّ ، فلا حجَّ عليه ، ومن ملك مالاً وصرفه قبل حلول أشهر الحجِّ فلا شيء عليه و أشهرٌ الحجِّ هي ؛ شوَّال وذو القعدة والعشرُ الأولُ من ذي الحِجَّة ، هذه أشهر الحجِّ قال تعالى :
[سورة البقرة]
ويجب أن يُؤدَّى في الوقت المناسب ويجب العلمُ به وبفرضيته والحريَّة والعقلُ والبلوغُ والإسلام هذه شروط الوجوب .
وبقيت الاستطاعة ، ومعناها القدرةُ ، ولها وجوهٌ كثيرةٌ لا بدَّ من تحقُّقها ، لأنها تكون بالمال وبالنفس وبالطريق ، فأما الاستطاعة بالمال فتكون بمُلك الزاد ، أي أن تملك نفقات الطَّعام والشراب طيلةَ أيام الحجِّ ، و يجب أن تعلم كم يكلِّف طعامُ الحاجِّ ، وأن تملك قيمة الزاد وأن تملك الراحلةَ أو أجرتَها ، والآن ثمن ركوب الطائرة ، ذهابًا وإيابًا ، وبعضُ العلماء قالوا : من كان غيرَ مستطيعٍ أن يركب الباخرة و لم يملك ثمن ركوب الطائرة فليس مستطيعاً ، فيجب أن يملك الزاد و الراحلةَ ذهابا وإيابًا ، ويجب أن يملك نفقاتِ السكنى أيضًا ، كلُّ هذه النفقات يجب أن تكون زائدة عن نفقات سكنه ، وأثاث بيته وثيابه ونفقات عياله الملتزِم بالإنفاق عليهم إلى حين عودته ، ومصروف البيت وأجرته ، والطعام و الشرابُ ، ونفقات الكهرباء والماء ، فكما كان هذا البيتُ في وجوده يجب أن يستمر بعد سفره للحج ، وهذه النفقات بالحدِّ الوسط ، وليس بالحدِّ الأعلى ، من غير إسراف و لا تقتير ، فهذه هي الاستطاعة التي تشترط لوجوب الحجِّ ، فمن لم يملك هذا المال الذي يمكّنه من الحجِّ فلا يجب عليه الحجُّ .
أما الاستطاعة بالنفس فهي أن يكون المكلَّف صحيح البدن و الأعضاء ، فلا يجب الأداءُ مع العجز الدائم كالمُقعَد ، ومقطوع اليد و الرِّجل ، ولا على الشيخ الكبير الذي لا يثبت على الراحلة بنفسه ، ولا على الأعمى ولو وجد قائدًا ، و لا على المريض الذي لا يُرجَى بُرْؤُه كلُّ هؤلاء لا يستطيعون الحجَّ ، لا لعلَّة المال ، بل لعلَّة الصحَّة .
وأما الاستطاعة بالطريق ، فيجب أن يكون الطريق آمنًا بغلبة السلام ، فإن خاف على نفسه القتل أو خاف على ماله السرقة فلا يجب عليه الأداء ، فوجب عليه الحجُّ و سقط عنه الأداءُ ، وهناك أحكامٌ أخرى سوف نراها بعد قليل .
قال العلماءُ : والذين يشعرون بدُنُوِّ أجلهم قبل أن يؤدُّوا حجَّ الفريضة بسبب عدم أمن الطريق ، أو بسب عدم صحَّة البدن لعجزهم، كالمُقعد الذي لا يستطيع المشيَ ، أو الشيخ الهرِم أو الأعمى ، وغيرهم ممَّن لا يتمكَّنون من أداء الحجِّ بأنفسهم ، فيجب عليهم الإيصاءُ بالحجِّ عنهم بعد الوفاة ، فما دمتَ تملك المالَ فقد وجب عليك الحجُّ ، فعندنا شروط الوجوب ، وعندنا شروط الأداء ، وما دمتَ غيرَ مستطيع لصحَّتك سقط عليك الأداءُ بذاته ، ووجب عليك أن تجهِّز حاجًّا آخر ، أو أن توصي بأن يُحجَّ عنك .
شروط أداء الحجِّ :
رقم الشريط :19/512
التاريخ : 26/6/88
الموضوع :الفقه الإسلامي : مناسك الحج .
تفريغ :السيد أحمد مالك .
مراجعة النص مع الشريط :
تدقيق لغوي :
تنقيح نهائي :
التدقيق اللغوي مع التنزيل : أحمد مالك .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا ، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا ، وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه ، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه ، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ بمناسبة قرب موسم الحجِّ سنبدأ الحديثَ عن بعض أحكام الحجِّ ، وسأخصِّص درسًا للإخوة الأكارم الذين يزمعون أداء فريضة الحج هذا العام ، وفي آخر الدرس سأحدِّد هذا الدرس .
تعريف الحج :
الحج - بفتح الحاء وبكسرها - فلك أن تقول حَج وحِج ، الأول اسمٌ والثاني مصدر حَجَّ يحُجُّ حِجًّا ، وهو القصد إلى معظَّمٍ ، أي أن تتَّجه إلى مكان عظيم ، أو إلى شيء عظيم ، هذا معنى الحجِّ في اللُّغة ، وأما تعريف الحج شرعًا ، فهو زيارة بقاع مخصوصة ، في زمن مخصوص، بفعلٍ مخصوص ، والمرادُ بالزيارة الطَّوافُ حول البيت العتيق ، الكعبة المشرَّفة ، و الوقوف بعرفة ، و أما البقاع المخصوصة فهي الكعبة و عرفة و أما الزمن المخصوص ففي الطَّواف من طلوع فجر يوم النحر إلى آخر العمر ، و في الوقوف بعرفة من زوال شمس يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر ، إذًا هو زيارة بقاع مخصوصة ، في زمن مخصوص ، بفعل مخصوص .
مكانة الحج في الإسلام :
الحجُّ أيها الإخوة ركنٌ كبيرٌ من أركان الإسلام ، فرضه اللهٌ تعالى على المستطيع فإذا كان الإنسانُ فقيرًا و بحث عن مبلغ يستقرضه ، نقول له : لا ، لا حجَّ عليك ، الحجُّ على المستطيع ، الحجُّ أحد أركان الإسلام الخمسة ، و لكنَّ اللهَ سبحانه تعالى فرضَه على المستطيع أي إنَّ أغلبَ الظنِّ أنَّ المستطيع مشغولٌ بماله ، وكأنَّ اللهَ سبحانه وتعالى يقول له : تعالَ إليَّ ودعْ بيتَك الفخمَ ، وتجارتَك العريضةَ ، ومكانتك المرموقة وتعالَ إليَّ ، فيقول الحاجُّ : لبَّيك اللهمَّ لبَّيك .
قال تعالى :
[سورة آل عمران]
وعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ ؛ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ؛ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؛ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَالْحَجِّ ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ *
[رواه البخاري]
فأركان الإسلام ؛ شهادةُ أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحجُّ البيت ، أمَّا إذا قلنا : بنِيَ الإسلامُ على خمسٍ ، شهادةِ - بالكسر - فهي بدل مِن خمسٍ ، أن لا إله إلا الله ، وإقامِ الصلاة ، وإيتاءِ الزكاة ، وصومِ رمضان وحجِّ البيت .
الحجُّ فرضُ عينٍ ، وكلُّكم يعلم أنَّ هناك فروضُ كفاية إذا قام بها البعض سقطت عن الكلِّ ، كصلاة الجنازة ، ولكنَّ الحجَّ فرضُ عين على المستطيع ، يُكَفَّرُ جاحدُه ، ويُفسَّق تاركُه وهو فرضٌ في العمُر مرَّةً واحدةً ، لحديث الأقرع بن حابس ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ خَطَبَنَا يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْحَجُّ ، قَالَ فَقَامَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ فَقَالَ : فِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ لَوْ قُلْتُهَا لَوَجَبَتْ ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهَا ، أَوْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْمَلُوا بِهَا ، فَمَنْ زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ *
[رواه أحمد]
وقد انعقد إجماعُ المسلمين أنه واجبٌ على الفور ، من حين الاستطاعة ، و الدليل قول النبيَِ عليه الصلاة و السلام عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ ، يَعْنِي الْفَرِيضَةَ ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ *
[رواه أحمد]
وقد ثبتتْ فرضيةُ الحجِّ بالكتاب الكريم ، قال تعالى :
[سورة آل عمران]
ولقول الله عزوجل :
[سورة الحج]
فلا يعرف معانيَ هذه الآيات إلا من ذاق و أدَّى هذه الفريضة بإخلاص و بصدق .
والآية الثالثة التي تؤكِّد فرضية الحجِّ قولُه تعالى :
[سورة البقرة]
إذًا الحجُّ ثبت بنص القرآن الكريم ، ونصُّ القرآن الكريم كما تعلمون قطعيُّ الثبوتِ وهذه الآيات قطعية الدِّلالة ، وبالسُّنة المطهَّرة ، لقول النبيّ عليه الصلاة و السلام فيما رواه أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ : خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ فقال: أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا ، فَقَالَ رَجُلٌ : أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَسَكَتَ ، حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قُلْتُ : نَعَمْ لَوَجَبَتْ ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ ، ثُمَّ قَالَ ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ *
[رواه مسلم]
لَوَجَبَتْ - أي في كلِّ عام - إذًا هو في العمر مرة واحدة ، ودائمًا الذي سكت عنه الشَّرعُ فيه حكمةٌ بالغةٌ ، قال عليه الصلاة و السلام : إن الله أمركم بأشياء ، ونهاكم عن أشياء وسكت عن أشياء" فسكوتُ الشارع الحكيم عن بعض الأمور توسعةٌ على المسلمين ، و الذي أمر به الشرعُ لا يقلُّ حكمةً عن الذي سكت عنه ، والشرعُ حكيم فيما أمر به ، وفيما نهى عنه ، وفيما سكت عنه ، فإن الله كتب عليكم الحج ، ولم يحدِّد النبيُّ ، بل أطلقه ، وسكت النبيُ الكريم ، قال : كل عام مرة ، ثانية ، بقي ساكتًا ، ثم قال أفي كل عام ؟ فقال عليه الصلاة و السلام : لو قلتُ نعم لوجبت - أي في كلِّ عام - و لما استطعتم ، لأنّ هذا فوق طاقتكم ، و في رواية أخرى لهذا الحديث حينما قال : أفي كل عام فقال عليه الصلاة و السلام : لو قلتها لوجبت ، و لو وجبتْ - أي في كل عام - لم تعملوا بها و لن تستطيعوا أن تعملوا بها " الحج مرة ، فمن زاد فهو تطوُّع .
وهناك حديثٌ آخر عامٌّ يبيِّن أنَّ المؤمنَ لا ينبغي له أن يكثر من السؤال إذا سكت النبيُّ عليه الصلاة والسلام عن بعض الأشياء ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ، فَقَالَ رَجُلٌ : فِي كُلِّ عَامٍ ، فَسَكَتَ عَنْهُ حَتَّى أَعَادَهُ ثَلَاثًا، فَقَالَ : لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ ، وَلَوْ وَجَبَتْ مَا قُمْتُمْ بِهَا ، ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالشَّيْءِ فَخُذُوا بِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ
[رواه النسائي]
أي دعوني ما دمتُ قد سكتُّ عن شيء ، فلا تسألوني عنه ، ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ ... وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ ، انظُرْ فإنَّ الاستقامة مطلقةٌ ، والأعمالُ الصالحة فبمقتضى الاستطاعة ، أمَّا المنهياتُ فيجب أن تُترَك كلِّيًّا ، وإلا وقع الحجابُ بين العبد وبين الله عزوجلَّ أمَّا المأموراتُ المندوباتُ فنأخذ منها بقدر ما نستطيع ، وقد أجمعت الأمَّةُ الإسلامية على فرضية الحجِّ على المستطيع ، كما أجمعت على فرضية الصلاة و الصوم والزكاة ، إذًا فرضيةُ الحجِّ ثبتت بالكتاب والسُّنة و الإجماع ، و الكتابُ والسُّنةُ أصلانِ كبيران من أصول التشريع والإجماعُ والقياسُ أصلانِ فرعيانِ منه .
تحدَّثتُ يوم الجمعة في الخطبة عن فوائد الحجِّ ، وكيف أن الحجًّ رحلة إلى الله عزوجل ، وتفريغٌ لهذه النفس من مشاغل الدنيا ، وتسريعٌ في إقبال العبد على الله عزوجل ورحلة تدريب على الرحلة الأخيرة إلى الدار الآخرة ، رحلةٌ قبل الأخيرة ، فهي رحلةٌ إلى الله عزوجل ، بل انسلاخٌ من الأقنعة الكاذبة التي نتوهَّمها كقناعِ المال ، هذا القناعُ ُيخلَع عنك في الحجِّ ، وقناعُ المكانة الاجتماعية ، وقناعُ المُتَع التي تمارسها و أنت في بلدك ، هذه الأقنعة كلُّها ستسقط عن صاحبها في الحجِّ ، كأنَّ الحجَّ يعيدك إلى حجمك الحقيقي ، وكأنَّك هناك تتفرَّغ إلى الإقبال على الله عزوجل ، من أجل أن تذوق طعمَ قربه ، وعلى كلٍّ ؛ كان الحديث يوم الجمعة طويلًا عن فوائد الحجُّ ، وقد غلبَ على هذا الدرس الطابعُ الفقهي ، لذلك ننتقل إلى شروط وجوبه .
الحجُّ فرض عين على المسلم ، فمن شروط وجوبه الإسلام ، فلا يجب الحجُّ على غير المسلم ، فلو أنّ إنسانًا كافرًا كان مستطيعا ماليًا أو أنّ إنسانًا كافرًا غنيًّا أسلم ثم افتقر فرَضًا هل عليه الحجُّ ؟ لا ، لأنه لمَّا كان كافرا مستطيعًا لم يكن محلَّ الخطاب ، فهذه نقطةٌ مهمَّةٌ ، لأنّ من شروط الحجِّ الإسلام ، فلا يجب على غير المسلم ، لعدم خطاب الكافر بالفروع ، و من شروطه العقلُ ، فلا يجب على المجنون لأنه ليس أهلا للتَّكليف ، لفقده أداةَ فهم الخطاب ومعرفة الأحكام ، وإذا أخذ ما أوهب أسقط ما أوجب ، والبلوغ فلا يجب على الصغير لأن التكليفَ يبدأ بالبلوغ ، لكنَّك ترى في الحجِّ أطفالاً صغارا يرتدون ثياب الإحرام و يحُجُّون مع آباءهم ، فهذا من قبيل التدريب والتَّبرُّك ، ولكنَّ الصغير ليس عليه الحجُّ ، والحرِّيةُ ، فلا يجب الحجُّ على العبد ويقاس على العبودية مَن فَقَدَ حرِّيته ، كَمَن كان مسجونا ، فليس عليه الحجُّ ، فلا يجب على العبد لأن الحجّ فريضةٌ بدنيَّة مالية ، والعبدُ وما ملكتْ يده لسيِّده .
فلو حجَّ الصبيُّ ، أو حجَّ العبدُ مع سيِّده وقع حجُّهما نفلاً ، لا فريضةً ، بمعنى أن الصبيَّ إذا كبُر عليه حجَّة الإسلام ، و أن العبد إذا أعتِق عليه حجَّة الإسلام ، ويُشترط العلمُ بفرضية الحجِّ لمن أسلم بدار الحرب ، أي إن الإنسان إذا أسلم حديثًا في دار الحرب - نحن عندنا ثلاثُ دور ، دارُ الإسلام ، فرجل نشأ في بيئة مسلمة ، نشأ في الشام ، و يقول : واللهِ أنا لا علمَ لي بالحجِّ ، هذا كلامٌ مرفوض ، أو إنسان نشأ في بلاد إسلامية وليس عنده علم بأن الحجَّ قد فُرِض عليه ، هذا كلام مرفوض أيضًا ، هذه دار الإسلام فلا جهل فيها ، وعندنا دار الحرب ، و عندنا دار الكفر ، و ثمَّة احتمال أن يسلم الإنسانُ في أثناء الحرب ، في أثناء الفتوح ، أسلم وقد ودخل في أشهر الحج ، هذا ليس علمه بفرضية الحج قائمًا ، ومن شروط الحج العلمُ بفرضية الحج لمن أسلم بدار الحرب ، أما مَن أسلم بدار الإسلام فلا يُشترَط العلمُ ، بل يُعدُّ وجودُه في دار الإسلام علمًا ، وما دمتَ في دار الإسلام فأنت قطعًا تعلم أن الحج فرضٌ.
وتأسيسا على هذه الأفكار أقول : يجب الحجُّ على العبد بعد العتق ، وعلى الصبيِّ بعد البلوغ ، و على المجنون بعد أن يعود إلى عقله ، دخل المِصحَّ فصحا وجب الحجُّ عليه ، وقد كان ساقطًا عنه حينما كان عبدا أوصبيًّا أو مجنونا ، والنقطة الدقيقة أنَّ الفقيرَ إذا حجَّ يقع حجُّه عن الفريضة ، فإذا كان الإنسان متشوِّقًا كثيرا ، وكان فقيرا وجمَّع قرشين وأعانه الناسُ ذهب إلى الحجِّ ، هل نقول له : هذه حجَّةٌ نافلةٌ ؟ لا ، فإذا حجَّ الفقيرُ يقع حجُّه عن الفريضة ، أي لا تلزَمه حَجَّةٌ أخرى ، و لو أصبح فيما بعدُ غنيًّا ، هكذا الحكمُ الشرعي .
ومن شروط الحجِّ أن يُؤدَّى في الوقت المناسب ، ووقتُ الحجِّ هو أشهر الحجِّ ، فمن ملك مالًا و صرفه في غير أشهر الحجِّ ، كَمَن كانت لديه خمسون ألف ليرة ، واشترى بها دكَّانا في غير أشهر الحجِّ ، فلا حجَّ عليه ، ومن ملك مالاً وصرفه قبل حلول أشهر الحجِّ فلا شيء عليه و أشهرٌ الحجِّ هي ؛ شوَّال وذو القعدة والعشرُ الأولُ من ذي الحِجَّة ، هذه أشهر الحجِّ قال تعالى :
[سورة البقرة]
ويجب أن يُؤدَّى في الوقت المناسب ويجب العلمُ به وبفرضيته والحريَّة والعقلُ والبلوغُ والإسلام هذه شروط الوجوب .
وبقيت الاستطاعة ، ومعناها القدرةُ ، ولها وجوهٌ كثيرةٌ لا بدَّ من تحقُّقها ، لأنها تكون بالمال وبالنفس وبالطريق ، فأما الاستطاعة بالمال فتكون بمُلك الزاد ، أي أن تملك نفقات الطَّعام والشراب طيلةَ أيام الحجِّ ، و يجب أن تعلم كم يكلِّف طعامُ الحاجِّ ، وأن تملك قيمة الزاد وأن تملك الراحلةَ أو أجرتَها ، والآن ثمن ركوب الطائرة ، ذهابًا وإيابًا ، وبعضُ العلماء قالوا : من كان غيرَ مستطيعٍ أن يركب الباخرة و لم يملك ثمن ركوب الطائرة فليس مستطيعاً ، فيجب أن يملك الزاد و الراحلةَ ذهابا وإيابًا ، ويجب أن يملك نفقاتِ السكنى أيضًا ، كلُّ هذه النفقات يجب أن تكون زائدة عن نفقات سكنه ، وأثاث بيته وثيابه ونفقات عياله الملتزِم بالإنفاق عليهم إلى حين عودته ، ومصروف البيت وأجرته ، والطعام و الشرابُ ، ونفقات الكهرباء والماء ، فكما كان هذا البيتُ في وجوده يجب أن يستمر بعد سفره للحج ، وهذه النفقات بالحدِّ الوسط ، وليس بالحدِّ الأعلى ، من غير إسراف و لا تقتير ، فهذه هي الاستطاعة التي تشترط لوجوب الحجِّ ، فمن لم يملك هذا المال الذي يمكّنه من الحجِّ فلا يجب عليه الحجُّ .
أما الاستطاعة بالنفس فهي أن يكون المكلَّف صحيح البدن و الأعضاء ، فلا يجب الأداءُ مع العجز الدائم كالمُقعَد ، ومقطوع اليد و الرِّجل ، ولا على الشيخ الكبير الذي لا يثبت على الراحلة بنفسه ، ولا على الأعمى ولو وجد قائدًا ، و لا على المريض الذي لا يُرجَى بُرْؤُه كلُّ هؤلاء لا يستطيعون الحجَّ ، لا لعلَّة المال ، بل لعلَّة الصحَّة .
وأما الاستطاعة بالطريق ، فيجب أن يكون الطريق آمنًا بغلبة السلام ، فإن خاف على نفسه القتل أو خاف على ماله السرقة فلا يجب عليه الأداء ، فوجب عليه الحجُّ و سقط عنه الأداءُ ، وهناك أحكامٌ أخرى سوف نراها بعد قليل .
قال العلماءُ : والذين يشعرون بدُنُوِّ أجلهم قبل أن يؤدُّوا حجَّ الفريضة بسبب عدم أمن الطريق ، أو بسب عدم صحَّة البدن لعجزهم، كالمُقعد الذي لا يستطيع المشيَ ، أو الشيخ الهرِم أو الأعمى ، وغيرهم ممَّن لا يتمكَّنون من أداء الحجِّ بأنفسهم ، فيجب عليهم الإيصاءُ بالحجِّ عنهم بعد الوفاة ، فما دمتَ تملك المالَ فقد وجب عليك الحجُّ ، فعندنا شروط الوجوب ، وعندنا شروط الأداء ، وما دمتَ غيرَ مستطيع لصحَّتك سقط عليك الأداءُ بذاته ، ووجب عليك أن تجهِّز حاجًّا آخر ، أو أن توصي بأن يُحجَّ عنك .
شروط أداء الحجِّ :
غازي- عدد المساهمات : 176
نقاط : 581
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 21/04/2009
رد: مناسك الحج
أمَّا الآن فمع شروط الأداء ، أوَّلاً : سلامة البدن من الآفات المانعة من القيام بما لا بدَّ منه في السفر ، فلا يجب الأداءُ على المُقعَد و الأعمى وإن وجد قائدًا ، والشيخُ الكبير الذي لا يثبُت على الراحلة .
ومن شروط أداء الحجِّ زوالُ المانع الحسِّي من الذهاب إلى الحجِّ ، كالحبس ، والمنع من السفر ، أو الخوف ، أو عدم وجود وسيلة للسفر ، ومن شروط الأداء أمنُ الطريق ، ومن شروط الأداء عدمُ قيام العِدَّة للمرأة ، من طلاق بائن ، فالمرأةٌ المطلّقةٌ وهي في العِدَّة ليس عليها حجٌّ ، ولكن ليس عليها أداؤه في هذا العام ، هذا فرق بين شروط الوجوب و شروط الأداء ، أو أنها مطلَّقةٌ طلاقًا رجعيًّا و هي في العِدَّة ، أو أنها معتدَّةٌ من وفاة زوجها ، فجميع أنواع العِدَّة تُسقِط أداءَ الحجِّ لا فرضِيتَه ، لأن الله تعالى نهى المعتدَّاتِ عن الخروج من بيوتهن لقوله تعالى :
[سورة الطلاق]
أما بالنسبة إلى المرأة فلا بدَّ من أن تخرج - اِنتبِهوا جيِّدًا - فلا بدَّ أن تخرج مع زوجٍ أو مَحرَمٍ تأبيدًا ، وليس محرما مؤقَّتًا ، بل على التأبيد ، فهناك أشخاصٌ كزوجِ أختك لا يجوز أن يتزوجها ، ولكنْ إذا ماتت أختُها يحقُّ لها الزواجُ به ، فهذا مَحرمٌ مؤقَّتٌ ، فلا يجوز أن تخرج المرأةُ إلى الحجِّ إلا مع زوج أو مَحرم على التأبيدِ ، لحديث ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ *
[رواه البخاري]
هذا ليس للحجِّ فقط ، بل لأيِّ سفرٍ ، وهناك قصصٌ كثيرة تثبت حكمة الشرع في هذا النهي ، فإذا سافرت المرأةُ وحدها كان الطمعُ فيها كبيرًا.
فإذا وجدت المرأة محرمًا ؛ وليكن أخاها ؛ لم يكن للزوج أن يمنعها لحجِّ الفرض وله أن يمنعها لحجِّ النفل ، فالزوجُ لا يحِقّ له أن يمنع امرأتَه من أن تحُجُّ حجَّ الفرض إذا وجدتْ مَحرمًا .
تعريف المَحرَم :
وتعريف المَحرم بالضبطِ ؛ من لا تجوز مُناكحتَه على التأبيد ، لنسب أو رضاعٍ أو مصاهرة ، وقد منع العلماءُ أن تسافر المرأةُ مع أخيها من الرضاعة لغلبة الفساد ، ويؤكِّد الفقهاءُ أنه لا يجوز للأخ أن يخلُوَ بأخته من الرضاع لغلبة الفساد .
وهناك شروط ثالثة ، شروط الوجوب تحدَّثنا عنها ، وشروط الأداء تحدَّثنا عنها وبقيَ شروطُ صحَّة الأداء ، وهي ؛ الإسلام و العقل و الإحرامُ بالحجِّ ، فالإحرامُ من شروط الحجّ في المذهب الحنفي ، و الفرقُ بين الشرط والركنأنّ، الشرط ليس داخلا في صُلب الفريضة ، بل يجب أن يُؤدَّى قبل الشروع في الفريضة ، والمرادُ بالإحرام النيةُ مع التلبيةِ ، فهو بالنسبة للحجّ كالنية للصلاة ، والوقت المخصوص أشهرُ الحجِّ ، و المكان المخصوص الميقاتُ المكاني ، أيْ الأماكنُ التي حدَّدها الشارعُ الحكيم لأداء فريضة الحجِّ .
بعضُ الملاحظاتِ المتعلِقة بفرضية الحجِّ :
إذا حجَّ الكافرُ هو كافر ؛ و لماذا كفر؟ إمَّا أنه نطق بكلمة الكفر ، فلو قال إنسانٌ : لا أرى الصلاةَ واجبةً ، وهذه الأشياءُ قديمةٌ ولا تناسب هذا العصرَ فقد كفر ، وإذا أنكر الإنسانُ أحدَ الفروض فقد كفر ، وإذا أنكرها قولاً أو عملاً فقد كفر ، فإذا حجَّ الكافرُ ثم أسلم فلا يُغنِي حجُّه ذاك عن حَجَّة الإسلام ، وهي غيرُ مقبولة ، وأحيانا الإنسان بحكم عمله التعاقدي في السعودية مع أصدقاءَ ويتحرِج فيحُجَّ معهم ، أما هو الحجُّ عنده فغير راضٍ به إطلاقًا ، بل شعائره أشياء لا قيمة لها ، غيبيات وخرافات ، فحجَّ معهم وهذا اعتقادُه في الحجِّ فهو كافر ، فإذا أسلم فلا تُغني حجَّتُه هذه عن حَجَّة الإسلام .
وإذا حجَّ الصغيرُ ثم بلغ لا يُغني حجُّه في صِغره عن حَجَّة الإسلام أيضًا ، وإذا ارتدَّ المسلمُ سقطتْ أعمالُه الصالحةُ كلُّها بارتداده ، و منها الحجُّ ، فإذا عاد و أسلم وجب عليه حجُّة الفريضة ، لأن وقتَ الحج هو العمُر ، وهو باطل ، و الارتدادُ هو الخروج عن الإسلام ، و يكون بالاعتقاد ، كاعتقاد شريك لله تعالى ، أو إنكار اليوم الآخر ، أو إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة ، كالصلاة والصيام والزكاة و الحجِّ أو نحو ذلك ، أو أن ينطق بكلمة الكفر ، فإذا كان ثمَّة تشدُّد، وسبَّ الإنساُنُ الدينَ فهذا ارتداد ، ويُستتابُ ، فإن لم يتُبْ تطلّق امرأتُه و تصادر أموالُه ، لأن هذه كلمة الكفر .
وإذا حجَّ الفقيرُ بمالٍ أُدِّيَ إليه ، أو وُهِب له ، أو استدانه ، صحَّ حجُّه ، هذه نقطةٌ مهمَة ، فباعتبارك فقيرا ، و لستَ مستطيعا ، و حججْت فحجُّك باطل !! لا ، هذا غلط ، فإذا حجَّ الفقيرُ بمالٍ أُدِّيَ إليه أو وُهِب له أو استدانه صحَّ حجُّه و سقط عنه حجُّ الفريضة .
ومن كان له بيتٌ لا يسكنه ، وهو زائد عن حاجته وجب عليه أن يبيعه ليحجَّ ، أمَّا لو كان له بيتٌ كبيرٌ لا يحتاج إليه كلِّه ، فلا يجب عليه بيعُ بعضه ، والشرعُ لم كلَّفك بذلك .
ويُكرَه الخروجُ إلى الحجِّ في حقِّ المدين ، الذي عليه ديْن ، إذا لم يكن له مالٌ يقضي به الديْنَ ، إلا أن يأخذ إذنًا من الدائن ، فيستأذنه ، كأن يكون شخص له معك مبلغ ضحمٌ ، وذهب إلى الحجِّ ، تنهاه قبل أن يحُجَّ حتّى يؤدِّي ما عليه من دين ، و قد يكون الدائن راقيا كثيرا ، وأَذِن فلا مانع في ذلك ، فالمدين لا يصحُّ حجُّه إلا إذا أذِن له الدائنُ .
حكم الحج من حيث الفور و التراخي :
آخرُ موضوع نعالجه ؛ هل يجب الحجُّ على الفور أم على التراخي ؟ مذهب أبي حنيفة و أبي يوسف ؛ تلميذه الأول و الإمام مالك و المُزَني من الشافعية تلميذ الشافعي ر حمهم الله تعالى أنَّ الحج يجب علىالفور ، و هو الإتيان به في أول أوقات الإمكان و في أول سنة من سنين الاستطاعة ، فإن أخَّره بلا عذر سنين يُفسَّق ويأثم ، وتُردُ شهادتُه إلا إذا أدَّى ولو في آخر عمره فإن الإثم يرتفع ، أما إن كان تأخيرُه لعذر فشيء آخر .
وما الدليلُ ؟ ما دليل وجوب الفور ؟ هو الاحتياطُ ، لأن الحجَّ لا يجوز إلا في وقت معيَّن واحد من السَّنة ، و الموتُ يقع في شكل غير نادر في السنة ، واحتمال موت الإنسان قبل أن يحُجَّ واقعٌ ، إذًا الدليل هو الاحتياط ، فتأخيره بعد التمكُّن تعريضٌ له على الفوات ، فيكون التأخيرُ مكروها كراهة تحريمية ، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما ؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ يَعْنِي الْفَرِيضَةَ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ *
[رواه أحمد]
هذا مذهب الإمام أبي حنيفة وأبي يوسف ومالك والمزني ، أما الإمام الشافعي ومحمد بن يوسف التلميذ الثاني لأبي حنيفة رحمهم اللهُ تعالى أنه يجب على التراخي لا على الفور ، لأن الحج يُؤدَّى في العمر ، و العمر كلُّه وقتٌ للحج ، كالوقت في الصلاة يصح تأخيرُها عن أوَّل الوقت ، إلا أنه إذا أخَّر بعد التمكُّن حتى مات ولم يحُجَّ فقد أَثِم ، وفي كل الأحوال يُفضَّل التعجيلُ للحج ، وسوف نأخذ في درس قادم إن شاء اللهُ تعالى بعض فروض الحج وبعض سننه وواجباته .
***
و الأن إلى قصة التابعي الأحنف بن قيس ، نحن في أوائل خلافة الفاروق نضَّر اللهُ وجهه ، وها هم هؤلاء الأنجاد الأمجاد رهطُ الأحنف بن قيس من بني تميم يمتطون صهوات الخيول الصافنات ، و يتقلَّدون الرِقاق المُرهفَات ، و يرحلون عن منازلهم في الأحساء ونجد ميمِّنين وجوههم شطرَ البصرة ، يريدون الانضمام إلى جموع المسلمين المحتشدين هناك تحت قيادة عتبة بن غزوان لقتال الفرس جهادا في سبيل اللهِ ، و طلبًا لما عند الله من حسن الثواب ، و كان معهم فتاهم الأحنف بن قيس ، وذات يوم تلقَّى عتبةُ بن غزوان كتابًا - قائد الجيش - من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللهُ عنه يأمره أن يرسل إليه عشرةً من صُلَحاء عسكره وأحسنهم بلاءً في القتال ، ليقف منهم على أحوال الجيش ، و ليتملَّى مما عندهم من غير مشورة ، فصدع عتبةُ بالأمر و جهَّز عشرة من صفوة عسكره ، وجعل بينهم الأحنف بن قيس ووجَّههم إلى المدينة ، و لمل مثُل رجالُ الوفد بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رحَّب بهم و أدنى مجالسهم ، ثم سألهم عن حوائجهم و حوائج عامَّة الناس ، فنهضوا إليه تِباعًا وقالوا : أمَّا عامَّةُ الناس فأنت وليُّهم ، لا علاقة لنا بهم ، وصاحبُ شؤونهم ، أما نحن فنتكلَّم عن خاصَّة أنفسنا ، ثم طلب كلٌّ منهم حاجته التي تعنيه ، وكان الأحنفُ بن قيس آخر الرجال كلامًا ، لأنه كان أصغرَهم سنًّا ، فلما جاء دورُه في الكلام حمِد اللهَ وأثنى عليه ثم قال : يا أمير المؤمنين إن جند المسلمين الذين حلُّوا في مصرَ قد نزلوا في الخُضرة والنُّضرة ، والخصب من منازل الفراعنة ، وإن الذين حلُّوا في ديار الشام قد نزلوا في الرغد والثمار والرياض من منازل القياصرة ، وإن الذين حلُّوا في ديار الفرس قد نزلوا على ضفاف النهر العذبة ، والجنان الوارفة من منازل الأكاسرة ، لكنّ قومنا الذين حلّوا في البصرة قد نزلوا في أرض هشاشةٍ نشاشةٍ -الهشاشة الأرض اللينة المُستَرخِية ، والنشاشة المالحة- لايجِفُّ ترابُها ولاينبُت مرعاها ، أحدُ طرفيها بحرُ قُجاجٌ وطرَفُها الآخرُ فَلاةٌ قفرٌ - وصفٌ دقيق جدًّا - فأَزِل يا أمير المؤمنين ضرَّهم ، وأنعِش حياتهم ومُرْ واليَك على البصرة أن يحفر لهم نهرًا يستعذبون منه الماءَ ، ويسقون الأنعامَ والزَّرعَ وتحسُن حالُهم ، ويصلُح عِيالُهم ، وترخُص أسعارُهم ، ويستعينون بذلك على الجهاد في سبيل اللهِ فنظر عمرُ إليه في إعجاب و قال : هلاَّ فعلتم مثل ما فعل هذا ، الجماعة قالوا : أما عامة الناس فأنت وليُّهم ، فقال سِّدنا عمرُ : إنه واللهِ لسيِّدٌ ، هذا سيِّد ، لأن سيِّد القوم خادمُهم ، إنه و اللهِ لسيِّد إذا كان الإنسانُ في مرتبة عُليا في مجتمعه ، فعليه تبِعاتٌ كثيرةٌ ، عليه أن يخدم الناس جميعا ليكون حقًّا سيّدَهم ، ثم قدَّم إليهم جوائزَهم ، وقدَّم للأحنف جائزته فقال : واللهِ يا أمير المؤمنين ما قطعنا إليك الفَلَواتِ و لا ضربْنا إليك أكبادَ الإبل في البُكور والعَشِياتِ لنيل الجوائز ، وما ليَ من حاجة لديَّ إلا حاجةَ قومي التي ذكرتُ ، فإن تقضِها لهم تكنْ قد كفيتَ ووفّيتَ ، فازداد عمرُ إعجابًا به و قال : هذا الغلامُ سيِّد أهل البصرة ، و لما انفضَّ المجلسُ وهمَّ رجالُ الوفد بالانصراف إلى رواحلهم ليبيتوا عندها أجال عمرُ بصرَه في حقائبهم فرأى طرَف ثوب خارجًا من إحداهم فقام فلمسه بيده و قال : لمَن هذا ؟ فقال الأحنفُ : ليَ يا أمير المؤمنين ، و قد أدرك أنه استغلاه فقال له عمرُ : بِكَمْ اشتريته ؟ فقال : بثمانية دراهم ، فقال : هلاَّ اكتفيتَ بواحد ووضعتَ فضلَ مالك في موضعٍ تعين به مسلما ، أي اشترِ ثوبا بدرهم ووضعتَ فضلَ مالك في موضعٍ تعين به مسلما ، ثم قال رضي اللهُ عنه :خذوا من أموالكم ما يصلِح شأنكم ، وضعوا الفضولَ في مواضعها تُريحوا أنفسكم و تربحوا .
سيِّدنا عمر أذِن للرجال بالعودة إلى البصرة ، غير أنه لم يسمح للأحنف أن يعود إليها ، واستبقاه عنده حولاً كاملاً ، ولقد أدرك عمرُ بثاقب نظره ما توافر لهذا الفتى التميمي من حِدَّة الذكاء ، ونصاعة البيان ، وسمُوِّ النفس ، وعُلُوِّ الهمَّة ، وغِنى المواهب ، فأراد أن يُبقيَه قريبا منه ليصنعه على عينه، وليلقى كبارَ الصحابة فيهتدي بهديهم ، ويتفقَّه في دين الله على أيديهم ثم إنه كان يريد أن يختبره عن كتَب ، وأن ينفُذ إلى دخيلة نفسه قبل أن يولِّيه بعضَ شؤون المسلمين ذلك أن عمر كان يخشى الأذكياءَ الفصحاء أشدَّ الخشية ، لأنهم إذا صلحوا ملؤوا الدنيا خيرًا وإذا فسدوا كان ذكاءهم وبَالاً على الخلق ، فالأذكياءُ يُخوِّفون ، يا أحنف إني قد ابتليْتُك واختبرتُك فلم أرَ إلا خيرًا ، وقد رأيتُ علانيتَك حسنةً ، وإني لأرجو أن تكون سريرتُك حسنةً أيضًا مثلَ علانيتك ، ثم وجَّهه لحرب الفرس و كتب لقائده أبي موسى الأشعري : أمَّا بعدُ فأدنِ الأحنفَ بن قيس و شاورْه واسمعْ منه ، فانضوى الأحنف تحت ألوية المسلمين المشَرَِّقة في بلاد فارس ، و أبْلى من ضُروب البطولات ما جعل سهمَه يعلو ، ونجمَه يتألّق ، وأبلى هو وقومه بنو تميم في قتال العدوِّ أكرمَ البلاء ، وبذلوا أسخى البذل ، حتى فتح اللهُ على أيديهم مدينةَ تُوسْتَرْ ، دُرّةَ التاج الكِسرَوِي ، وأوقع في أسرهم الهُرمزان .
كان الهرمزان من أشدِّ قواد الفرس بأسًا ، وأقوى أمرائهم شكيمةً ، و أمضاهم عزيمةً وأوسعهم مكيدةً في الحرب ، وقد ألجأتْه انتصاراتُ المسلمين إلى مصالحتهم أكثر من مرة ، غير أنه كان يغدر بهم كلما سمحتْ له الفرصةُ ، وظنَّ أنه قادرٌ على النصر ، فلمل أطبقوا عليه تحصَّن منهم في بُرْجٍ من أبراج الحصن و قال : إن معي مائة سهم وواللهِ ما تصلون إليَّ ما دام في يدي شيءٌ منه ، و أنتم تعلمون أني رامٍ لا تخطِأ له رمية ، فما جدوى أسركم إيايَ بعد أن أقتل منكم مائة ؟ فقالوا و ماذا تريد ؟ فقال : أريد أن أنزل على حكم خليفتكم عمر ، ولْيفعلْ بي ما يشاء ، فقالوا : لك ذلك ، فرمى قوسه على الأرض ، ونزل إليهم مستسلمًا ، فشدُّوا وثاقه وأُرسِل إلى المدينة مع وفد من أبطال الفتح ، و كان على رأسهم أنسُ بن مالك خادم رسول الله صلى الل عليه و سلم و الأحنفُ بن قيس تلميذُ المدرسة العُمرية ، ومضى الوفدُ يحُثُّ الخُطى بالهرمزان نحو المدينة ليبشِّر سيِّدَنا عمر بالفتح ، ويحمل إلى بيت مال المسلمين خمس الغنائم ، وليسلّم ناقض العهود ، خوَّانَ الذمم إلى الخليفة ليحكم فيه بحكمه ، وسيدنا صلاح الدين لما انتصر على الفرنجة عفا عن كلِّ ملوك فرنجة إلا ملكًا واحدًا كان كلَّ عامٍ يغدِر بالمسلمين ، ويقتل حجَّاجهم هذا لم يعفُ عنه ، بل قتله بيده ، لأنه كان غدَّارا ، فهذا كان ناقضًا للعهود ، خوَّانا للذِّمم ، أُرسِل إلى المدينة ليحكم فيه سيدنا عمر بحكمه ، و لما بلغوا حواشيَ المدينة أعدُّوا الهرمزان ليعرضوه على المسلمين على هيئته هناك ، فألبسوه ثيابَه المنسوجة من ثمين الديباج ، و المُوشَّاة بخيوط الذَّهب ، ووضعوا على رأسه تاجَه المرَصَّعَ بالدُّرِّ و الجوهر و قلَّدوه صوْلجانَه المصنوعَ من الإبريز المُكلَّل باليواقيت و اللآلئ ، وأدخلوه إلى المدينة بهيئته العظيمة يوم كان قائدًا كبيرا في بلاد فارس ، فما أن وطِأتْ أقدامُهم أرضَ يثربَ حتى تجمَّع الناسُ عليهم شِيبًا وشبَّانًا ، إنه منظرٌ غريبٌ ، و جعلوا ينظرون إلى أسيرهم ، ويعجبون من هيئته وزيِّه أشدَّ العجَب ، توجّه الوفدُ بالهرمزان إلى دار عمر فلم يجدوه ، فسألوا عنه ، فقيل هو في المسجد يستقبل وفدًا قدِم عليه فانطلقوا إلى المسجد فلم يجدوه ، و كانوا كلما طال بهم البحثُ عن الخليفة تكاثر الناسُ عليهم و اشتدَّ الزحامُ ، فصار الأمرُ فُرجة ، وفيما هم في حيرتهم رآهم صبيةٌ صغارٌ يلعبون فقالوا : ما شأنكم ؟ نراكم ذاهبين آيبين لعلَّكم تريدون أميرَ المؤمنين ، قالوا : نعم نريده ، قالوا : فإنه نائمٌ في ميمنة المسجد متوسِّدٌ بُرنسَه ، و كان عمرُ رضي اللهُ عنه قد خرج للقاء وفدٍ من أهل الكوفة ، فلما انصرف الوفدُ خلع البُرنس ووضعه تحت رأسه وأسلم جفنيه للتراب ، فانطلق الوفدُ بالهرمزان إلى ميمنة المسجد فلما رأوا الخليفةَ نائما جلسوا دونه ، وأجلسوا أسيرَهم معهم ، و لم يكن للهرمزان يفقه العربيةَ ، وما كان يخطر بباله أن هذا النائمَ في ناحية المسجد هو أمير المؤمنين عمر ، حقًّا لقد كان قد سمع عن تقشُّفه ، وزهده في زخرُف الدنيا وزينتها ، لكنه ما كان يتخيَّل أن ينام قاهرُ الروم و الفرس في طرف المسجد من غير غطاء ، و لا وِكاء و لا حرَّاسٍ و لا حُجَّابٍ و لما رأى القومَ يجلسون صامتين ، ظنهم الهرمزانُ يتأهَّبون للصلاة ، ويترقَّبون قُدوم الخليفة لكنَّ الأحنفَ بن قيس جعل يشير إلى الناس أن يسكتوا ، ويكفُّوا عن الجلبة لكي لا يوقظوا الخليفة فقد كان يعلم علم اليقين من صحبته السابقة أنه قلَّما يُغمَض له جفنٌ في الليل ، فهو إمَّا قائمٌ في محرابه يعبد اللهَ ، وإمَّا متخفِّفٌ من ثيابه يجوب أحياءَ المدينة ليعرف أحوالَ الرعية ، أو عاسٌّ يحرس بيوت المسلمين من الطُّراق ، فأثارتْ إشاراتُ الأحنف إلى الناس انتباهَ الهرمزان ، فالتفت إلى المغيرة بن شعبة و كان يعرف الفارسية و قال : مَن هذا النائمُ ؟ فقال له المغيرةُ : إنه عمر فثغَرَ الهرمزانُ فمه دهشةً و قال : عمر! أين حرسُه و حجَّابُه ؟ فقال له المغيرةُ : ليس له حارسٌ و لا حاجبٌ ، فقال الهرمزان : ينبغي أن يكون نبيًّا ، فقال المغيرة : لا ، بل يفعل فعلَ الأنبياء إذ لا نبيَّ بعد رسول اللهِ ، ثم كثُر الناسُ ، و ارتفعتْ الجلَبةُ فاستيقظ عمرُ ، واستوى جالسًا ، ونظر إلى الناس في دهشةٍ ، فرأى الأميرَ الفارسي وعلى رأسه تاجُه المتَوهِّج تحت أشعَّة الشَّمس ، وفي يده صولجَانُه الذي يخطف بريقُه الأبصارَ ، فحدَّق وقال : مَن هذا ؟ فقالوا : هو الهرمزانُ ، فقال: الهرمزانُ فقال الأحنفُ : : نعم يا أمير المؤمنين ، فتأمَّل عمرُ ما عليه من الذهب واللآلئ واليواقيت ، و الجواهر والحرير ، ثم أشاح بوجهه و قال : أعوذ بالله من النار ، و أستعين به على الدنيا ، الحمد لله الذي أذلَّ هذا و أشياعَه للإسلام ، و قال : يا معشر المسلمين تمسّكوا بهذا الدين ؛ كلمة عميقة ؛ يا معشر المسلمين تمسّكوا بهذا الدين ، واهتدوا بهدي نبيّكم الكريم ولاتُبطِركم الدنيا فإنها غرَّارةٌ ، فلما فرغ من كلامه بشَّره الأحنفُ بن قيس بالفتح و أخبره بما أفاء اللهُ على المسلمين من الغنائم ، وقال : يا أمير المؤمنين إن الهرمزان قد استأسَر لنا - أي استسلم - وطلب أن ينزل على حكمك فيه ، فكلِّمه إذًا ، قال : لا أكلِّمه حتى تخلعوا عنه هذه المظاهر فخلعوا عنه حِليته وتاجه ، وأخذوا منه صولجانه ، وألسوه ثوباً يستره ، عند ذلك التفت عمر إليه، وقال : يا هرمزان - طبعا هناك مترجِم - كيف وجدتَ وبالَ الغدر ، وعاقبة أمر الله ؟ فأطرق الهرمزان في ذِلَّة ، ثم قال : يا عمر لقد كنا في الجاهلية نحن و إياكم و لم يكن الله معنا و لا معكم ، فغلبناكم ، فلما أسلمتم صار اللهُ معكم فغلبتمونا ، فقال له عمر : لقد غلبتمونا لهذا الذي ذكرتَ ، ولأمر آخر هو اجتماعكم وتفرُّقنا ، ثم نظر إليه بشدة و قال : ما عذرُك في انتقاضك المرة تِلْوَ المرة عهود المسلمين يا هرمزان ، هل لك عذرٌ في الغدر ؟ فقال الهرمزانُ : أخاف ؟ أن تقتلني ، فقال عمر : لا بأس عليك حتى تخبرني - أي أنت في أمان إلى أن تخبرني ، فلما سمع الهرمزان ذلك من عمر هدأ رَوْعُه بعض الشيء ، وقال : إني عطشان ، فأمر له عمر أن يسقوه ، فأُتِيَ له بماء في قدحٍ غليظ ، فتأمله - طبعا هذا ملِك - قال : و اللهِ لو متُّ عطشا ما شربتُ من هذا الإناء ، فأمر عمرُ فأُتيَ له بماء في إناءٍ يرضاه ؛ فلما أخذه من يده جعلت يدُه ترتجف ، فقال له عمرُ : ما بكَ ؟ فقال إني أخاف أن أُقتَل وأنا أشرب هذه الجرعة من الماء فقال له عمر : لا بأس عليك حتى تشربها ، فما كان من الهرمزان إلا أن كفَأَ الإناءَ ، وسفح الماءَ فقال عمر: أحضروا له ماء غيرَه ، ولا تجمعوا عليه القتل والعطشَ ، فقال الهرمزان : لا حاجة لي بالماء أبدا ، وإنما أردتُّ أن أستأمِن به على نفسي من القتل ، فقال له عمر : إني قاتلُك ، فقال الهرمزان : لقد أمَّنتني ، فقال عمر : لقد كذبتَ ، فقال أنسُ بن مالك : صدق يا أمير المؤمنين لقد أمَّنتَه ، فقال عمر : ويحك يا أنس أَؤُأمِّن قاتلَ أخي ، هيهات ، فقال أنسُ : لقد قلتَ له : لا بأسَ عليك حتى تخبرني ، وقلتَ له : لا بأس عليك حتى تشرب الماء ، وأيَّد الأحنف قول أنس ، وأقرَّ الحاضرون بأن سيّدنا عمر قد أمَّن الهرمزانَ ، فنظر عمر إليه ، وقال : لقد خدعتَني ، وإني واللهِ لا أنخدع إلا لمسلم ، فأسلم الهرمزانُ ، فأراد سيدنا عمر أراد أن يقسُوَ عليه كي يحمله على الإسلام ، و أحيانا تحدث تمثيلية بين الأب والأم على الطفل ، وسيدنا عمر كان يقلق بالَه كثرةُ نقض الفرس لعهودهم وانقلابهم.
و الحمد لله رب العالمين
ومن شروط أداء الحجِّ زوالُ المانع الحسِّي من الذهاب إلى الحجِّ ، كالحبس ، والمنع من السفر ، أو الخوف ، أو عدم وجود وسيلة للسفر ، ومن شروط الأداء أمنُ الطريق ، ومن شروط الأداء عدمُ قيام العِدَّة للمرأة ، من طلاق بائن ، فالمرأةٌ المطلّقةٌ وهي في العِدَّة ليس عليها حجٌّ ، ولكن ليس عليها أداؤه في هذا العام ، هذا فرق بين شروط الوجوب و شروط الأداء ، أو أنها مطلَّقةٌ طلاقًا رجعيًّا و هي في العِدَّة ، أو أنها معتدَّةٌ من وفاة زوجها ، فجميع أنواع العِدَّة تُسقِط أداءَ الحجِّ لا فرضِيتَه ، لأن الله تعالى نهى المعتدَّاتِ عن الخروج من بيوتهن لقوله تعالى :
[سورة الطلاق]
أما بالنسبة إلى المرأة فلا بدَّ من أن تخرج - اِنتبِهوا جيِّدًا - فلا بدَّ أن تخرج مع زوجٍ أو مَحرَمٍ تأبيدًا ، وليس محرما مؤقَّتًا ، بل على التأبيد ، فهناك أشخاصٌ كزوجِ أختك لا يجوز أن يتزوجها ، ولكنْ إذا ماتت أختُها يحقُّ لها الزواجُ به ، فهذا مَحرمٌ مؤقَّتٌ ، فلا يجوز أن تخرج المرأةُ إلى الحجِّ إلا مع زوج أو مَحرم على التأبيدِ ، لحديث ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ *
[رواه البخاري]
هذا ليس للحجِّ فقط ، بل لأيِّ سفرٍ ، وهناك قصصٌ كثيرة تثبت حكمة الشرع في هذا النهي ، فإذا سافرت المرأةُ وحدها كان الطمعُ فيها كبيرًا.
فإذا وجدت المرأة محرمًا ؛ وليكن أخاها ؛ لم يكن للزوج أن يمنعها لحجِّ الفرض وله أن يمنعها لحجِّ النفل ، فالزوجُ لا يحِقّ له أن يمنع امرأتَه من أن تحُجُّ حجَّ الفرض إذا وجدتْ مَحرمًا .
تعريف المَحرَم :
وتعريف المَحرم بالضبطِ ؛ من لا تجوز مُناكحتَه على التأبيد ، لنسب أو رضاعٍ أو مصاهرة ، وقد منع العلماءُ أن تسافر المرأةُ مع أخيها من الرضاعة لغلبة الفساد ، ويؤكِّد الفقهاءُ أنه لا يجوز للأخ أن يخلُوَ بأخته من الرضاع لغلبة الفساد .
وهناك شروط ثالثة ، شروط الوجوب تحدَّثنا عنها ، وشروط الأداء تحدَّثنا عنها وبقيَ شروطُ صحَّة الأداء ، وهي ؛ الإسلام و العقل و الإحرامُ بالحجِّ ، فالإحرامُ من شروط الحجّ في المذهب الحنفي ، و الفرقُ بين الشرط والركنأنّ، الشرط ليس داخلا في صُلب الفريضة ، بل يجب أن يُؤدَّى قبل الشروع في الفريضة ، والمرادُ بالإحرام النيةُ مع التلبيةِ ، فهو بالنسبة للحجّ كالنية للصلاة ، والوقت المخصوص أشهرُ الحجِّ ، و المكان المخصوص الميقاتُ المكاني ، أيْ الأماكنُ التي حدَّدها الشارعُ الحكيم لأداء فريضة الحجِّ .
بعضُ الملاحظاتِ المتعلِقة بفرضية الحجِّ :
إذا حجَّ الكافرُ هو كافر ؛ و لماذا كفر؟ إمَّا أنه نطق بكلمة الكفر ، فلو قال إنسانٌ : لا أرى الصلاةَ واجبةً ، وهذه الأشياءُ قديمةٌ ولا تناسب هذا العصرَ فقد كفر ، وإذا أنكر الإنسانُ أحدَ الفروض فقد كفر ، وإذا أنكرها قولاً أو عملاً فقد كفر ، فإذا حجَّ الكافرُ ثم أسلم فلا يُغنِي حجُّه ذاك عن حَجَّة الإسلام ، وهي غيرُ مقبولة ، وأحيانا الإنسان بحكم عمله التعاقدي في السعودية مع أصدقاءَ ويتحرِج فيحُجَّ معهم ، أما هو الحجُّ عنده فغير راضٍ به إطلاقًا ، بل شعائره أشياء لا قيمة لها ، غيبيات وخرافات ، فحجَّ معهم وهذا اعتقادُه في الحجِّ فهو كافر ، فإذا أسلم فلا تُغني حجَّتُه هذه عن حَجَّة الإسلام .
وإذا حجَّ الصغيرُ ثم بلغ لا يُغني حجُّه في صِغره عن حَجَّة الإسلام أيضًا ، وإذا ارتدَّ المسلمُ سقطتْ أعمالُه الصالحةُ كلُّها بارتداده ، و منها الحجُّ ، فإذا عاد و أسلم وجب عليه حجُّة الفريضة ، لأن وقتَ الحج هو العمُر ، وهو باطل ، و الارتدادُ هو الخروج عن الإسلام ، و يكون بالاعتقاد ، كاعتقاد شريك لله تعالى ، أو إنكار اليوم الآخر ، أو إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة ، كالصلاة والصيام والزكاة و الحجِّ أو نحو ذلك ، أو أن ينطق بكلمة الكفر ، فإذا كان ثمَّة تشدُّد، وسبَّ الإنساُنُ الدينَ فهذا ارتداد ، ويُستتابُ ، فإن لم يتُبْ تطلّق امرأتُه و تصادر أموالُه ، لأن هذه كلمة الكفر .
وإذا حجَّ الفقيرُ بمالٍ أُدِّيَ إليه ، أو وُهِب له ، أو استدانه ، صحَّ حجُّه ، هذه نقطةٌ مهمَة ، فباعتبارك فقيرا ، و لستَ مستطيعا ، و حججْت فحجُّك باطل !! لا ، هذا غلط ، فإذا حجَّ الفقيرُ بمالٍ أُدِّيَ إليه أو وُهِب له أو استدانه صحَّ حجُّه و سقط عنه حجُّ الفريضة .
ومن كان له بيتٌ لا يسكنه ، وهو زائد عن حاجته وجب عليه أن يبيعه ليحجَّ ، أمَّا لو كان له بيتٌ كبيرٌ لا يحتاج إليه كلِّه ، فلا يجب عليه بيعُ بعضه ، والشرعُ لم كلَّفك بذلك .
ويُكرَه الخروجُ إلى الحجِّ في حقِّ المدين ، الذي عليه ديْن ، إذا لم يكن له مالٌ يقضي به الديْنَ ، إلا أن يأخذ إذنًا من الدائن ، فيستأذنه ، كأن يكون شخص له معك مبلغ ضحمٌ ، وذهب إلى الحجِّ ، تنهاه قبل أن يحُجَّ حتّى يؤدِّي ما عليه من دين ، و قد يكون الدائن راقيا كثيرا ، وأَذِن فلا مانع في ذلك ، فالمدين لا يصحُّ حجُّه إلا إذا أذِن له الدائنُ .
حكم الحج من حيث الفور و التراخي :
آخرُ موضوع نعالجه ؛ هل يجب الحجُّ على الفور أم على التراخي ؟ مذهب أبي حنيفة و أبي يوسف ؛ تلميذه الأول و الإمام مالك و المُزَني من الشافعية تلميذ الشافعي ر حمهم الله تعالى أنَّ الحج يجب علىالفور ، و هو الإتيان به في أول أوقات الإمكان و في أول سنة من سنين الاستطاعة ، فإن أخَّره بلا عذر سنين يُفسَّق ويأثم ، وتُردُ شهادتُه إلا إذا أدَّى ولو في آخر عمره فإن الإثم يرتفع ، أما إن كان تأخيرُه لعذر فشيء آخر .
وما الدليلُ ؟ ما دليل وجوب الفور ؟ هو الاحتياطُ ، لأن الحجَّ لا يجوز إلا في وقت معيَّن واحد من السَّنة ، و الموتُ يقع في شكل غير نادر في السنة ، واحتمال موت الإنسان قبل أن يحُجَّ واقعٌ ، إذًا الدليل هو الاحتياط ، فتأخيره بعد التمكُّن تعريضٌ له على الفوات ، فيكون التأخيرُ مكروها كراهة تحريمية ، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما ؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ يَعْنِي الْفَرِيضَةَ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ *
[رواه أحمد]
هذا مذهب الإمام أبي حنيفة وأبي يوسف ومالك والمزني ، أما الإمام الشافعي ومحمد بن يوسف التلميذ الثاني لأبي حنيفة رحمهم اللهُ تعالى أنه يجب على التراخي لا على الفور ، لأن الحج يُؤدَّى في العمر ، و العمر كلُّه وقتٌ للحج ، كالوقت في الصلاة يصح تأخيرُها عن أوَّل الوقت ، إلا أنه إذا أخَّر بعد التمكُّن حتى مات ولم يحُجَّ فقد أَثِم ، وفي كل الأحوال يُفضَّل التعجيلُ للحج ، وسوف نأخذ في درس قادم إن شاء اللهُ تعالى بعض فروض الحج وبعض سننه وواجباته .
***
و الأن إلى قصة التابعي الأحنف بن قيس ، نحن في أوائل خلافة الفاروق نضَّر اللهُ وجهه ، وها هم هؤلاء الأنجاد الأمجاد رهطُ الأحنف بن قيس من بني تميم يمتطون صهوات الخيول الصافنات ، و يتقلَّدون الرِقاق المُرهفَات ، و يرحلون عن منازلهم في الأحساء ونجد ميمِّنين وجوههم شطرَ البصرة ، يريدون الانضمام إلى جموع المسلمين المحتشدين هناك تحت قيادة عتبة بن غزوان لقتال الفرس جهادا في سبيل اللهِ ، و طلبًا لما عند الله من حسن الثواب ، و كان معهم فتاهم الأحنف بن قيس ، وذات يوم تلقَّى عتبةُ بن غزوان كتابًا - قائد الجيش - من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللهُ عنه يأمره أن يرسل إليه عشرةً من صُلَحاء عسكره وأحسنهم بلاءً في القتال ، ليقف منهم على أحوال الجيش ، و ليتملَّى مما عندهم من غير مشورة ، فصدع عتبةُ بالأمر و جهَّز عشرة من صفوة عسكره ، وجعل بينهم الأحنف بن قيس ووجَّههم إلى المدينة ، و لمل مثُل رجالُ الوفد بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رحَّب بهم و أدنى مجالسهم ، ثم سألهم عن حوائجهم و حوائج عامَّة الناس ، فنهضوا إليه تِباعًا وقالوا : أمَّا عامَّةُ الناس فأنت وليُّهم ، لا علاقة لنا بهم ، وصاحبُ شؤونهم ، أما نحن فنتكلَّم عن خاصَّة أنفسنا ، ثم طلب كلٌّ منهم حاجته التي تعنيه ، وكان الأحنفُ بن قيس آخر الرجال كلامًا ، لأنه كان أصغرَهم سنًّا ، فلما جاء دورُه في الكلام حمِد اللهَ وأثنى عليه ثم قال : يا أمير المؤمنين إن جند المسلمين الذين حلُّوا في مصرَ قد نزلوا في الخُضرة والنُّضرة ، والخصب من منازل الفراعنة ، وإن الذين حلُّوا في ديار الشام قد نزلوا في الرغد والثمار والرياض من منازل القياصرة ، وإن الذين حلُّوا في ديار الفرس قد نزلوا على ضفاف النهر العذبة ، والجنان الوارفة من منازل الأكاسرة ، لكنّ قومنا الذين حلّوا في البصرة قد نزلوا في أرض هشاشةٍ نشاشةٍ -الهشاشة الأرض اللينة المُستَرخِية ، والنشاشة المالحة- لايجِفُّ ترابُها ولاينبُت مرعاها ، أحدُ طرفيها بحرُ قُجاجٌ وطرَفُها الآخرُ فَلاةٌ قفرٌ - وصفٌ دقيق جدًّا - فأَزِل يا أمير المؤمنين ضرَّهم ، وأنعِش حياتهم ومُرْ واليَك على البصرة أن يحفر لهم نهرًا يستعذبون منه الماءَ ، ويسقون الأنعامَ والزَّرعَ وتحسُن حالُهم ، ويصلُح عِيالُهم ، وترخُص أسعارُهم ، ويستعينون بذلك على الجهاد في سبيل اللهِ فنظر عمرُ إليه في إعجاب و قال : هلاَّ فعلتم مثل ما فعل هذا ، الجماعة قالوا : أما عامة الناس فأنت وليُّهم ، فقال سِّدنا عمرُ : إنه واللهِ لسيِّدٌ ، هذا سيِّد ، لأن سيِّد القوم خادمُهم ، إنه و اللهِ لسيِّد إذا كان الإنسانُ في مرتبة عُليا في مجتمعه ، فعليه تبِعاتٌ كثيرةٌ ، عليه أن يخدم الناس جميعا ليكون حقًّا سيّدَهم ، ثم قدَّم إليهم جوائزَهم ، وقدَّم للأحنف جائزته فقال : واللهِ يا أمير المؤمنين ما قطعنا إليك الفَلَواتِ و لا ضربْنا إليك أكبادَ الإبل في البُكور والعَشِياتِ لنيل الجوائز ، وما ليَ من حاجة لديَّ إلا حاجةَ قومي التي ذكرتُ ، فإن تقضِها لهم تكنْ قد كفيتَ ووفّيتَ ، فازداد عمرُ إعجابًا به و قال : هذا الغلامُ سيِّد أهل البصرة ، و لما انفضَّ المجلسُ وهمَّ رجالُ الوفد بالانصراف إلى رواحلهم ليبيتوا عندها أجال عمرُ بصرَه في حقائبهم فرأى طرَف ثوب خارجًا من إحداهم فقام فلمسه بيده و قال : لمَن هذا ؟ فقال الأحنفُ : ليَ يا أمير المؤمنين ، و قد أدرك أنه استغلاه فقال له عمرُ : بِكَمْ اشتريته ؟ فقال : بثمانية دراهم ، فقال : هلاَّ اكتفيتَ بواحد ووضعتَ فضلَ مالك في موضعٍ تعين به مسلما ، أي اشترِ ثوبا بدرهم ووضعتَ فضلَ مالك في موضعٍ تعين به مسلما ، ثم قال رضي اللهُ عنه :خذوا من أموالكم ما يصلِح شأنكم ، وضعوا الفضولَ في مواضعها تُريحوا أنفسكم و تربحوا .
سيِّدنا عمر أذِن للرجال بالعودة إلى البصرة ، غير أنه لم يسمح للأحنف أن يعود إليها ، واستبقاه عنده حولاً كاملاً ، ولقد أدرك عمرُ بثاقب نظره ما توافر لهذا الفتى التميمي من حِدَّة الذكاء ، ونصاعة البيان ، وسمُوِّ النفس ، وعُلُوِّ الهمَّة ، وغِنى المواهب ، فأراد أن يُبقيَه قريبا منه ليصنعه على عينه، وليلقى كبارَ الصحابة فيهتدي بهديهم ، ويتفقَّه في دين الله على أيديهم ثم إنه كان يريد أن يختبره عن كتَب ، وأن ينفُذ إلى دخيلة نفسه قبل أن يولِّيه بعضَ شؤون المسلمين ذلك أن عمر كان يخشى الأذكياءَ الفصحاء أشدَّ الخشية ، لأنهم إذا صلحوا ملؤوا الدنيا خيرًا وإذا فسدوا كان ذكاءهم وبَالاً على الخلق ، فالأذكياءُ يُخوِّفون ، يا أحنف إني قد ابتليْتُك واختبرتُك فلم أرَ إلا خيرًا ، وقد رأيتُ علانيتَك حسنةً ، وإني لأرجو أن تكون سريرتُك حسنةً أيضًا مثلَ علانيتك ، ثم وجَّهه لحرب الفرس و كتب لقائده أبي موسى الأشعري : أمَّا بعدُ فأدنِ الأحنفَ بن قيس و شاورْه واسمعْ منه ، فانضوى الأحنف تحت ألوية المسلمين المشَرَِّقة في بلاد فارس ، و أبْلى من ضُروب البطولات ما جعل سهمَه يعلو ، ونجمَه يتألّق ، وأبلى هو وقومه بنو تميم في قتال العدوِّ أكرمَ البلاء ، وبذلوا أسخى البذل ، حتى فتح اللهُ على أيديهم مدينةَ تُوسْتَرْ ، دُرّةَ التاج الكِسرَوِي ، وأوقع في أسرهم الهُرمزان .
كان الهرمزان من أشدِّ قواد الفرس بأسًا ، وأقوى أمرائهم شكيمةً ، و أمضاهم عزيمةً وأوسعهم مكيدةً في الحرب ، وقد ألجأتْه انتصاراتُ المسلمين إلى مصالحتهم أكثر من مرة ، غير أنه كان يغدر بهم كلما سمحتْ له الفرصةُ ، وظنَّ أنه قادرٌ على النصر ، فلمل أطبقوا عليه تحصَّن منهم في بُرْجٍ من أبراج الحصن و قال : إن معي مائة سهم وواللهِ ما تصلون إليَّ ما دام في يدي شيءٌ منه ، و أنتم تعلمون أني رامٍ لا تخطِأ له رمية ، فما جدوى أسركم إيايَ بعد أن أقتل منكم مائة ؟ فقالوا و ماذا تريد ؟ فقال : أريد أن أنزل على حكم خليفتكم عمر ، ولْيفعلْ بي ما يشاء ، فقالوا : لك ذلك ، فرمى قوسه على الأرض ، ونزل إليهم مستسلمًا ، فشدُّوا وثاقه وأُرسِل إلى المدينة مع وفد من أبطال الفتح ، و كان على رأسهم أنسُ بن مالك خادم رسول الله صلى الل عليه و سلم و الأحنفُ بن قيس تلميذُ المدرسة العُمرية ، ومضى الوفدُ يحُثُّ الخُطى بالهرمزان نحو المدينة ليبشِّر سيِّدَنا عمر بالفتح ، ويحمل إلى بيت مال المسلمين خمس الغنائم ، وليسلّم ناقض العهود ، خوَّانَ الذمم إلى الخليفة ليحكم فيه بحكمه ، وسيدنا صلاح الدين لما انتصر على الفرنجة عفا عن كلِّ ملوك فرنجة إلا ملكًا واحدًا كان كلَّ عامٍ يغدِر بالمسلمين ، ويقتل حجَّاجهم هذا لم يعفُ عنه ، بل قتله بيده ، لأنه كان غدَّارا ، فهذا كان ناقضًا للعهود ، خوَّانا للذِّمم ، أُرسِل إلى المدينة ليحكم فيه سيدنا عمر بحكمه ، و لما بلغوا حواشيَ المدينة أعدُّوا الهرمزان ليعرضوه على المسلمين على هيئته هناك ، فألبسوه ثيابَه المنسوجة من ثمين الديباج ، و المُوشَّاة بخيوط الذَّهب ، ووضعوا على رأسه تاجَه المرَصَّعَ بالدُّرِّ و الجوهر و قلَّدوه صوْلجانَه المصنوعَ من الإبريز المُكلَّل باليواقيت و اللآلئ ، وأدخلوه إلى المدينة بهيئته العظيمة يوم كان قائدًا كبيرا في بلاد فارس ، فما أن وطِأتْ أقدامُهم أرضَ يثربَ حتى تجمَّع الناسُ عليهم شِيبًا وشبَّانًا ، إنه منظرٌ غريبٌ ، و جعلوا ينظرون إلى أسيرهم ، ويعجبون من هيئته وزيِّه أشدَّ العجَب ، توجّه الوفدُ بالهرمزان إلى دار عمر فلم يجدوه ، فسألوا عنه ، فقيل هو في المسجد يستقبل وفدًا قدِم عليه فانطلقوا إلى المسجد فلم يجدوه ، و كانوا كلما طال بهم البحثُ عن الخليفة تكاثر الناسُ عليهم و اشتدَّ الزحامُ ، فصار الأمرُ فُرجة ، وفيما هم في حيرتهم رآهم صبيةٌ صغارٌ يلعبون فقالوا : ما شأنكم ؟ نراكم ذاهبين آيبين لعلَّكم تريدون أميرَ المؤمنين ، قالوا : نعم نريده ، قالوا : فإنه نائمٌ في ميمنة المسجد متوسِّدٌ بُرنسَه ، و كان عمرُ رضي اللهُ عنه قد خرج للقاء وفدٍ من أهل الكوفة ، فلما انصرف الوفدُ خلع البُرنس ووضعه تحت رأسه وأسلم جفنيه للتراب ، فانطلق الوفدُ بالهرمزان إلى ميمنة المسجد فلما رأوا الخليفةَ نائما جلسوا دونه ، وأجلسوا أسيرَهم معهم ، و لم يكن للهرمزان يفقه العربيةَ ، وما كان يخطر بباله أن هذا النائمَ في ناحية المسجد هو أمير المؤمنين عمر ، حقًّا لقد كان قد سمع عن تقشُّفه ، وزهده في زخرُف الدنيا وزينتها ، لكنه ما كان يتخيَّل أن ينام قاهرُ الروم و الفرس في طرف المسجد من غير غطاء ، و لا وِكاء و لا حرَّاسٍ و لا حُجَّابٍ و لما رأى القومَ يجلسون صامتين ، ظنهم الهرمزانُ يتأهَّبون للصلاة ، ويترقَّبون قُدوم الخليفة لكنَّ الأحنفَ بن قيس جعل يشير إلى الناس أن يسكتوا ، ويكفُّوا عن الجلبة لكي لا يوقظوا الخليفة فقد كان يعلم علم اليقين من صحبته السابقة أنه قلَّما يُغمَض له جفنٌ في الليل ، فهو إمَّا قائمٌ في محرابه يعبد اللهَ ، وإمَّا متخفِّفٌ من ثيابه يجوب أحياءَ المدينة ليعرف أحوالَ الرعية ، أو عاسٌّ يحرس بيوت المسلمين من الطُّراق ، فأثارتْ إشاراتُ الأحنف إلى الناس انتباهَ الهرمزان ، فالتفت إلى المغيرة بن شعبة و كان يعرف الفارسية و قال : مَن هذا النائمُ ؟ فقال له المغيرةُ : إنه عمر فثغَرَ الهرمزانُ فمه دهشةً و قال : عمر! أين حرسُه و حجَّابُه ؟ فقال له المغيرةُ : ليس له حارسٌ و لا حاجبٌ ، فقال الهرمزان : ينبغي أن يكون نبيًّا ، فقال المغيرة : لا ، بل يفعل فعلَ الأنبياء إذ لا نبيَّ بعد رسول اللهِ ، ثم كثُر الناسُ ، و ارتفعتْ الجلَبةُ فاستيقظ عمرُ ، واستوى جالسًا ، ونظر إلى الناس في دهشةٍ ، فرأى الأميرَ الفارسي وعلى رأسه تاجُه المتَوهِّج تحت أشعَّة الشَّمس ، وفي يده صولجَانُه الذي يخطف بريقُه الأبصارَ ، فحدَّق وقال : مَن هذا ؟ فقالوا : هو الهرمزانُ ، فقال: الهرمزانُ فقال الأحنفُ : : نعم يا أمير المؤمنين ، فتأمَّل عمرُ ما عليه من الذهب واللآلئ واليواقيت ، و الجواهر والحرير ، ثم أشاح بوجهه و قال : أعوذ بالله من النار ، و أستعين به على الدنيا ، الحمد لله الذي أذلَّ هذا و أشياعَه للإسلام ، و قال : يا معشر المسلمين تمسّكوا بهذا الدين ؛ كلمة عميقة ؛ يا معشر المسلمين تمسّكوا بهذا الدين ، واهتدوا بهدي نبيّكم الكريم ولاتُبطِركم الدنيا فإنها غرَّارةٌ ، فلما فرغ من كلامه بشَّره الأحنفُ بن قيس بالفتح و أخبره بما أفاء اللهُ على المسلمين من الغنائم ، وقال : يا أمير المؤمنين إن الهرمزان قد استأسَر لنا - أي استسلم - وطلب أن ينزل على حكمك فيه ، فكلِّمه إذًا ، قال : لا أكلِّمه حتى تخلعوا عنه هذه المظاهر فخلعوا عنه حِليته وتاجه ، وأخذوا منه صولجانه ، وألسوه ثوباً يستره ، عند ذلك التفت عمر إليه، وقال : يا هرمزان - طبعا هناك مترجِم - كيف وجدتَ وبالَ الغدر ، وعاقبة أمر الله ؟ فأطرق الهرمزان في ذِلَّة ، ثم قال : يا عمر لقد كنا في الجاهلية نحن و إياكم و لم يكن الله معنا و لا معكم ، فغلبناكم ، فلما أسلمتم صار اللهُ معكم فغلبتمونا ، فقال له عمر : لقد غلبتمونا لهذا الذي ذكرتَ ، ولأمر آخر هو اجتماعكم وتفرُّقنا ، ثم نظر إليه بشدة و قال : ما عذرُك في انتقاضك المرة تِلْوَ المرة عهود المسلمين يا هرمزان ، هل لك عذرٌ في الغدر ؟ فقال الهرمزانُ : أخاف ؟ أن تقتلني ، فقال عمر : لا بأس عليك حتى تخبرني - أي أنت في أمان إلى أن تخبرني ، فلما سمع الهرمزان ذلك من عمر هدأ رَوْعُه بعض الشيء ، وقال : إني عطشان ، فأمر له عمر أن يسقوه ، فأُتِيَ له بماء في قدحٍ غليظ ، فتأمله - طبعا هذا ملِك - قال : و اللهِ لو متُّ عطشا ما شربتُ من هذا الإناء ، فأمر عمرُ فأُتيَ له بماء في إناءٍ يرضاه ؛ فلما أخذه من يده جعلت يدُه ترتجف ، فقال له عمرُ : ما بكَ ؟ فقال إني أخاف أن أُقتَل وأنا أشرب هذه الجرعة من الماء فقال له عمر : لا بأس عليك حتى تشربها ، فما كان من الهرمزان إلا أن كفَأَ الإناءَ ، وسفح الماءَ فقال عمر: أحضروا له ماء غيرَه ، ولا تجمعوا عليه القتل والعطشَ ، فقال الهرمزان : لا حاجة لي بالماء أبدا ، وإنما أردتُّ أن أستأمِن به على نفسي من القتل ، فقال له عمر : إني قاتلُك ، فقال الهرمزان : لقد أمَّنتني ، فقال عمر : لقد كذبتَ ، فقال أنسُ بن مالك : صدق يا أمير المؤمنين لقد أمَّنتَه ، فقال عمر : ويحك يا أنس أَؤُأمِّن قاتلَ أخي ، هيهات ، فقال أنسُ : لقد قلتَ له : لا بأسَ عليك حتى تخبرني ، وقلتَ له : لا بأس عليك حتى تشرب الماء ، وأيَّد الأحنف قول أنس ، وأقرَّ الحاضرون بأن سيّدنا عمر قد أمَّن الهرمزانَ ، فنظر عمر إليه ، وقال : لقد خدعتَني ، وإني واللهِ لا أنخدع إلا لمسلم ، فأسلم الهرمزانُ ، فأراد سيدنا عمر أراد أن يقسُوَ عليه كي يحمله على الإسلام ، و أحيانا تحدث تمثيلية بين الأب والأم على الطفل ، وسيدنا عمر كان يقلق بالَه كثرةُ نقض الفرس لعهودهم وانقلابهم.
و الحمد لله رب العالمين
غازي- عدد المساهمات : 176
نقاط : 581
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 21/04/2009
:: القسم الديني
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الخميس أغسطس 02, 2012 10:47 am من طرف بنت ازرع
» ملخص وتذكرة بسيطة عن مدينة بصر الحرير ....
الأربعاء يوليو 04, 2012 11:07 am من طرف بنت ازرع
» عاجل بصر الحرير البطلة
الجمعة يونيو 22, 2012 2:37 am من طرف بنت ازرع
» قصف مدينة بصر الحرير بالهاون
الأحد يونيو 17, 2012 2:10 am من طرف بنت ازرع
» حوران منتصف النهار آخر الاحداث
الأحد يونيو 17, 2012 2:03 am من طرف بنت ازرع
» عاجل من بصر الحرير حفظها الله
الخميس يونيو 14, 2012 10:42 am من طرف بنت ازرع
» اوطى قمة بالعالم لموسوعة جنيس
الخميس مايو 03, 2012 5:43 am من طرف بنت ازرع
» شهداء الفزعة لكي لا ننسى رحمكم الله
الخميس مايو 03, 2012 5:38 am من طرف بنت ازرع
» عمل خاص حوران بصرالحریر
الأحد أبريل 29, 2012 12:02 am من طرف بنت ازرع